الإمام الطيب يخرج من “الستر”

شيخ الأزهر في زيارة لمسجد السيدة نفيسة

 

دخل “الإمام الطيب” في “الستر” مجبرًا، خوفًا على حياته بعد اغتيال والده “الآمر بأحكام الله” الذي كان حاكمًا على مصر بين عامي (1101-1130م) بينما دخل الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في “الستر” طوعًا، متجنبًا الظهور في موضع قد لا يريده، تفرضه الرسميات وبروتوكولات استقبال الضيوف الأجانب.

اختفى الإمام الطيب كما يعتقد “البُهرة”، وهو رضيع فرارًا من ابن عم أبيه “عبد المجيد” الذي اغتصب الحكم، وأزاحه، معتليًا كرسي الخلافة، في القاهرة الفاطمية، قبل تسعة قرون، ليصبح هو الإمام الغائب بالنسبة لطائفة البُهرة إحدى فرق الشيعة الإسماعيلية، بينما خرج الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر من “الستر” الاختياري قبل أيام إلى مسجد السيدة نفيسة على أطراف القاهرة الفاطمية، بعد شهر كامل من افتتاح رسمي لمسجدها حضره سلطان البهرة.

لم ينجب

تتفق معظم المصادر التاريخية على أن “الآمر بأحكام الله” لم ينجب في حياته، لكن الطائفة التي تُعَد من غلاة الجماعات الشيعية، تؤمن بأن إمامهم لا يموت حتى يخلف ابنًا ويوصي له، ولذلك لم يصدقوا أن الإمام مات دون أن ينجب، فأشاع قادة الطائفة الاسماعيلية بينهم دون سند تاريخي أن الآمر له ابن هو “الطيب”، وأن “الآمر” هو الذي طلب إبعاد ابنه من القاهرة إلى بقعة غير معلومة، وأنهم لم يعرفوا شيئًا عنه بعد ذلك، واعتبروا هذا بداية ما يسمونه “عهد الستر”.

أوتي “الآمر” الحكم صبيًّا، وهو ابن سنوات خمس، لكن عندما اشتد عوده واستلم مقاليد السلطة، انقلب على وزيره الأفضل شاهنشاه فقتله، رغم أنه كان وزيرًا لأبيه من قبله، وعيَّن المأمون البطائحي، ليسيطر على الحكم.

ويذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عن “الآمر بأحكام الله” أنه كان “خبيثَ المُعتقَدِ، سفّاكًا للدماءِ، متمرّدًا جبّارًا فاحشًا فاسقًا”، وبسبب لهوه فقدت الدولة الفاطمية التي كانت عاصمتها القاهرة في عهده مناطق عكا، التي احتلها الصليبيون، وطرابلس وبيروت وصيدا وتبنين وصور، وتقول بعض المصادر إنه ادعى الألوهية وإن ذلك ربما كان سببًا في مقتله.

انشقاق الإسماعيلية

وقد حدث انشقاق في إمامة الشيعة الإسماعيلية بعد مقتل “الآمر”، بعد أن أرسل قادة الإسماعيلية لأتباعهم في اليمن أن “الطيب” هو إمام الطائفة الذي أوصى به أبوه، بينما احتج أنصار “الحافظ لدين الله” بأن “الآمر” أوصى لابن عمه عبد المجيد، لأنه بلا ولد، متمسحين في ما يقولون إنه توصية الرسول لابن عمه علي بن أبي طالب من بعده، فظهرت جماعتان هما “الطيبية” في اليمن، بينما انحاز البعض لابن عم الآمر وهو “الحافظ لدين الله” وعُرفوا بـ”الحافظية”.

لم يعرف الشيعة الإسماعيلية في اليمن شيئًا عن “الإمام الطيب” الذي لم يولد أصلًا، ولا عن نسله الذي لم يوجد أبدًا، فأعلنوا أنه دخل “كهف الستر والغيبة”، وأنه إمام مستور، وأن نسله مستور لحين قيام المهدي، فاختاروا إمامًا لهم سُمي “الداعي”، واعتبروا أنه نائب عن الإمام الغائب حتى يظهر.

انتقلت جماعة الطيبية إلى الهند وبرعوا في التجارة وعُرفوا بـ”البُهرة”، واتخذوا من مدينة بومباي مقرًّا للداعي، الذي يُعَد سلطان الطائفة ومحور حياة أفرادها.

جدل بين العوام

مفضل سيف الدين سلطان طائفة “البُهرة” واسعة الثراء التي أُعلن رسميًّا أنها مولت أعمال تطوير مسجد السيدة نفيسة، بحي الخليفة في القاهرة الفاطمية، ظهر في الثامن من أغسطس/آب 2023 في افتتاح التجديدات التي أثارت الجدل بين العوام وفي مختلف وسائل الإعلام المصرية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب ما كشفه متخصصون أن التجديد اعتدى على خصوصية الأثر، ولم يراع الطابع التاريخي للمسجد والضريح الذي يضم مرقد السيدة نفيسة.

حضر وزير الأوقاف الدكتور مختار جمعة، مع سلطان البُهرة بينما غاب الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر عن هذا الافتتاح دون سبب معلن، رغم وجوده في القاهرة وعدم ارتباطه بسفر خارجي أو داخلي.

وبعد شهر كامل من افتتاح مسجد السيدة نفيسة، وفي الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول الجاري، زار شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب مسجد “نفيسة العلوم” ليتفقد أعمال التطوير، يرافقه أيضًا وزير الأوقاف مختار جمعة.

غياب الإمام

قد يحرص شيخ الأزهر على حضور بعض المناسبات، لكنه يتعامل أحيانًا بمنطق الشاعر ابن الورديّ حين قال: غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ *** أَكْثَرَ التَّرْدَادَ أَضْنَاهُ المَلَلْ

ولم تكن تلك المرة الأولى التي يغيب فيها الإمام الأكبر أحمد الطيب، عن افتتاح تطوير مساجد “آل البيت”، ففي نهاية إبريل/نيسان 2022، وفي مشهد مشابه، افتُتحت أعمال التجديد الشاملة لمسجد “الحسين”، بمرافقة سلطان “البُهرة”، بينما غاب شيخ الأزهر الذي ينتمي إلى عائلة صوفية عريقة، من الأقصر بصعيد مصر.

يُعرف عن أتباع الجماعات الصوفية أنهم يضعون” آل البيت” النبوي في منزلة تقدير وإجلال، كما يُعَد مسجد الحسين مقرًّا لنشاط الجماعات الصوفية، ومزارًا مهمًّا للمصريين والمسلمين من العرب والأجانب.

وبعد شهر كامل من افتتاح مسجد الحسين، قام الإمام أحمد الطيب بزيارته، وتفقّد أعمال التجديد الشاملة بالمسجد، والتطوير الذي تم في الساحات الخارجية والزخارف المعمارية والمرافق المخصصة للمسجد، كما أن وفدًا من المجلس الأعلى للطرق الصوفية برئاسة عبد الهادي القصبي، ومعه عدد من كبار الشيوخ بينهم علي جمعة مفتي الديار الأسبق، قد زاروا مسجد الحسين بعد افتتاحه بحضور سلطان “البُهرة”، بنحو ثلاثة أسابيع، ولم يحضر أي منهم الافتتاح الرسمي، بينما أشار المتحدث باسم رئاسة الجمهورية إلى ما وصفه بـ”جهود مُقدَّرة لسلطان البُهرة في ترميم وتجديد مقامات آل البيت”.

حضر سلطان البهرة فغاب شيخ الأزهر والشيوخ المعتبرين، بينما تثير نشاطات طائفة البُهرة حفيظة المختصين والمهتمين بالآثار الإسلامية ومقامات “آل البيت” النبوي، ليس فقط بسبب عدم الحفاظ على هوية الأثر، وإضفاء تحديثات تتناقض مع روح المكان، ولكن أيضًا بسبب الطبيعة الباطنية، لمعتقدات الطائفة التي تخرجها بعض الفتاوى من عباءة الدين الإسلامي.

الباطنية

يفضل البهرة الصلاة وحدهم، ولا يصلون الجمعة، ويعتقدون بعصمة أئمتهم، ويضفون عليهم صفات إلهية، ويخالفون الأعياد وبدء الصيام والحج، ويصلون العيد بلا خطبة، وينكرون القيامة، ويرون أن أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قد اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب.

وبينما تجنب شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب تكفير أي طائفة أو جماعة بما فيها الجماعات المتطرفة دينيًّا، فإن فتاوى عديدة صدرت عبر سنوات من دار الافتاء المصرية تعُدهم مخالفين لصحيح الإسلام، بينما صدرت فتاوى تكفيرية في عدد من الدول العربية.

وفي كتابه “فضائح الباطنية”، يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي إن دعوتهم “مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين”.

وفي كتاب “نهاية المطاف” لإبراهيم الإبياري، كتب عن أحوال البلاد في عهد الفاطميين وعن إضفاء صفات إلهية على الخلفاء الفاطميين، قائلًا: “ضاق المصريون بالفاطميين وتنكروا لهم، عقيدة وحكمًا، وكتب شاعر مصري مجهول بيتين في رقعة وضعها على المنبر، فلما صعد الخليفة العزيز بالله إلى المنبر وجد مكتوبًا:

بالظلمِ والجورِ قد رضينا وليسَ بالكُفرِ والحماقة

إنْ كنتَ اُعطيتَ عِلمَ غيبٍ فقلْ لنا كاتبَ البطاقة

لا يحصل الإمام الأكبر أحمد الطيب على راتب بصفته شيخًا للأزهر، ولا يَعُد نفسه مجرد موظف في “دولاب الدولة”، كما لا يمكن وصفه بأنه معارض للسلطة، فقد كان عضوًا في الحزب الوطني إبان عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981-2011)، كما كان له موقف واضح ضد فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين (2012-2013)، لكن مجمل مواقفه تشي بنزعة استقلالية صونًا للمؤسسة التي يرأسها، والمؤكد أنه دخل في “الستر” توقيرًا لعمامة شيخ الأزهر التي يرتديها منذ 19 مارس/آذار 2010، وكي لا يضع الأزهر في خدمة أهداف طائفة تعتقد المؤسسة الدينية المصرية الرسمية أنها قد تخالف ثوابت السنة والجماعة.

غاب الإمام أحمد الطيب عن لقاء سلطان البهرة، بينما ينتظر الأخير وأتباعه انتهاء الستر وعودة “الطيب” ذلك الإمام الذي لم يولد.

المصدر : الجزيرة مباشر