يونس إمره (1) النفس الأمّارة

مسلسل يونس إمره (منصات التواصل الاجتماعي)

كان القاضي يونس بن عبد الله في طريقه إلى ناليهان إحدى مقاطعات دولة السلاجقة حينما صادف الشيخ تابتوك إيمره أحد شيوخ الصوفية في المقاطعة، وبينما هما في الطريق حدثت واقعة قتل والقاضي لم يصل بعد إلى مقر المحكمة التي عُيّن فيها، ورأى القاضي أحدهم يحاول إنقاذ الشخصين اللذين تعرّضا للقتل.

ظن يونس أنه القاتل وحاول أن يمسك به ولكنه هرب، وقال للشيخ “لقد رأيت القاتل لكنه هرب مني”، وأجابه الشيخ “ربما ليس قاتلا”، لكن يونس صمم لأنه رأى الحقيقة حسب قناعته.

ما تراه ليس الحقيقة

بدأ يونس يبحث عن القاتل حسب ظنه، وقد طُبعت صورته في ذهنه، وكان المشتبه فيه هو أحد مريدي الشيخ، فذهب إلى خان الشيخ واختبأ فيه، وعرف يونس ذلك فتوجه إلى تكية الشيخ أو الخان، واقتحمها ليعثر على من يظنه قاتلا، وقبض عليه وتم الحكم بالإعدام على حسن الخطيب أحد مريدي الشيخ توبتوك إيمره.

تجادل الشيخ مع القاضي المتغطرس، فقال للشيخ “لقد وجدت المذنب”، فقال له الشيخ “العدالة ليست إثبات الذنب على المذنب ومحاكمته بل البحث عن البراءة للبريء”، وعاد يونس القاضي ليحقق فيما رآه فكان أن رأى الحقيقة، ولم تكن كما شاهدها بعينه، فقد كان المريد بريئا، والقاتل ليس من رأته عيناه، تكرر هذا معه في قضايا عدة، فليس دائما الحكم هو الحقيقة، وليس ما نراه هو الحقيقة أو العدالة.

تلك كانت أحداث الحلقات الأولى من مسلسل “يونس إمره” القاضي الذي صار صوفيا كبيرا، وأبدع من قلبه شعرا كان يقال إنه يعادل معنى الرسالة المحمدية. و”يونس إمره” أحد المسلسلات التي أنتجتها شركة المنتج محمد بوزداغ على جزأين عام 2015، وهو مؤلف ومنتج المسلسل، وبلغ أكثر من 45 ساعة درامية.

يونس الشاعر المتصوف

يونس إمره هو القاضي وأحد شعراء المتصوفة الذي لا تزال أشعاره تُنشد حتى اليوم رغم وفاته منذ أكثر من 700 عام، فقد وُلد يونس بن عبد الله عام 638 هجرية وتوفي 720 هجرية، ووُصف بالشاعر الأسطورة، ويحتل مكانة كبيرة في الوجدان التركي والإنساني، ومن أشهر المتصوفة في تركيا، ومن أشعاره:

أنت في الفجر فقم كيما تصلي

وتأمل أنت للشمس التجلي

الصلاة كل من عنها غفل

خسر الربح وخاب في العمل

وله قلب ولكن من حجر

ليس بالمسلم عنها من نفر

أنت يا يونس صل في عجل

أدها من قبل أن يأتي الأجل

مراحل يونس الدرامية

الكتابة في العمل دقيقة إلى درجة التوقف أمام كل جملة حوارية فيه، ولكل مجموعة من حلقاته رسالة صيغت بدقة شديدة، الشخصيات والبناء الدرامي متميز، إنتاج فني جيد، ديكورا وموسيقى وملابس و”إكسسوارات”.

مع الأداء الراقي للممثل التركي باريش أردوتش الذي قدّم شخصية يونس ومجموعة العمل تستمتع بعمل فريد دراميا، ولأن يونس إمره عايش نهايات الدولة السلجوقية وبدايات الدولة العثمانية، فيمكنك متابعة بعض مشاهد هذا الممثل الجيد في حلقات الجزء الخامس من المؤسس عثمان الذي يُعرض حاليا.

النفس الأمّارة

يونس بن عبد الله قاضي ناليهان يقابل توبتوك إيمره، وهو أحد القضاة الذين يتمتعون بالذكاء الحاد وأحد أميز تلاميذ المدرسة الشرعية في قونيا، تملّك الكبر والغرور منه، فهو يرى نفسه قاضي قضاة الدولة بعد سنوات، يقتحم خان إيمره دون مراعاة لمكانة الرجل في المدينة.

تبدأ مرحلة من الإعجاب المتبادل، عين الشيخ ترى مستقبل يونس الذي يختصر الكلام في جملة محكمة وحكيمة، وعين يونس ترى العلم بين يدى العجوز، يتقابل الرجلان عند البحث عن الحقيقة كونية وإنسانية، ليصل الأمر إلى أن يونس يترك مجلس القضاء ليكون مريدا للشيخ إيمره.

كان على الشيخ أن يطوع نفس يونس المغرورة المتكبرة، وفي الوقت ذاته يختبر صلابته وقدرة النفس لديه على أن يكون مريدا يتخلى عن مظاهر الدنيا، وليصبح درويشا متجولا يرتدي سترة الدراويش، ولا تتحكم نفسه فيه، يخلع يونس رداء القاضي، ويرتدي رداء المريد الذي تزداد فيه الرقع كلما زادت نفسه اقترابا من الحقيقة، وكلما ارتقى درجة في مسيرة الصوفية.

طلب يونس من شيخه مهمة، فالدرويش لا يجلس بلا عمل، فهو يتعلم ولا يترك الذكر، ويعمل، أعطاه شيخه أول مهمة تنظيف الخان وخاصة الحمامات، ثم أعطاه مهمة العناية بكلب يعيش في الخان، ثم أعطاه مهمة جمع الحطب للخان.

وفي كل الحالات يصارع يونس نفسه الأمّارة بالسوء، يتمرد على الوظيفة التي أوكلها إليه الشيخ، فهو يرى أنه يونس القاضي النبيه ذو المستقبل الباهر، وهذه الوظائف لا تليق به، يتذمر كلما حدث الصراع مع نفسه، كيف هذا؟! يقرر يونس ترك الخان والعودة إلى القضاء، الشيخ يقول له “اذهب يا يونس، لا نقول للقادم: لِمَ جئت؟ ولا نقول للذاهب: لا تذهب”.

يذهب يونس إلى قونيا عاصمة الدولة، يطلب العودة إلى القضاء، فنفسه لا تستطيع احتمال المشقة وخاصة عندما قابل صديق دراسته في السوق، فقد أراد الشيخ أن يختبر قوته النفسية فطلب منه البحث عن الكلب في الشوارع، فيصادف صديقه وهو يجري خلف الكلب، يشعر يونس بمرارة وضعه ويحس بالخجل أمام صديقه الذي جاء قاضيا بعده، فيقرر العودة إلى القضاء.

رحلة صراع يونس لا تنتهي، فهو صراع مع النفس البشرية، تلك النفس الأمّارة بالسوء، تخطيها يستلزم قدرة كبيرة لضبطها، وهي امتحان صعب ليس من السهل عبوره، فإذا تخطاها تأتي النفس اللوامة لتُذكّره دائما: ألم تكن أنت القاضي الذي يحسب الجميع حسابه، ولا يستطيع أحد أن يقف أمامك؟

صراع يونس مع نفسه قاس، يحترق أو يسويه شيخه على نار هادئة ليكون جوهرة وذهبا خالصا.. وللقصة بقية.

المصدر : الجزيرة مباشر