الزكاة ورعاية طلبة العلم صغارا وكبارا

كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم، قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، فلم تكن الدعوة إلى القراءة والعلم نظرية، بل رأينا تشريعات الإسلام تسهم إسهاما غير مسبوق -على مستوى الديانات والحضارات- في تعزيز العلم، ورعاية أهله، وبخاصة فيما يتعلق بالجانب المادي، إذ إنه كثيرا ما كان سببا في تعطل مسيرة عالم، أو طالب علم، أو توقف بحث علمي، أو مؤسسات تعليمية، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم * لم يبن ملك على جهل وإقلال

ولأن المطلوب أن يكون العلم مستقلا عن السلطة ونفوذها، وعن الجماهير وأهوائها، فقد كان الفقهاء -انطلاقا من الشريعة الغراء- يفتحون مجالات تسهم في استقلال العلم وأهله عن أي نفوذ، فرأينا أكثر من مورد مالي في الشريعة يوجه إلى طالب العلم، مثل الوقف، والوصايا، والهبات، وغيرها، وأهم من ذلك كله فريضة الزكاة، فقد أصَّل الفقهاء لإعطاء طلبة العلم -صغارا وكبارا- من الزكاة.

ويستوى في ذلك طلاب العلوم الشريعة، وطلاب العلوم الأخرى كالطب والتكنولوجيا، وسائر ما تحتاج إليه الأمة، فهم يسدون ثغرة في الأمة، ويقومون بالنيابة عنها بهذا الفرض الكفائي، وهو ما أشار إليه الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” من أهمية قيام المجتمع بفرض الكفاية في كفالة طالب العلم، وذلك بتحمله عنه ما يعوق مسيرته العلمية، والمجتمع هنا قد يكون أفرادًا، أو مؤسسات، فالزكاة والوقف والصدقات تقوم بهذا الواجب المالي، ولكن قيام المؤسسات بذلك أولى وأفضل، ضمانا لاستمراره، وحفظا لماء وجه أهل العلم، والمصلحة العامة للأمة، وغرسا لمعنى الولاء للأمة، فمن عاونته الأمة والمجتمع يزداد ولاؤه ويقوى لتلك الأمة التي رعته من خلال مؤسساتها.

إعطاء الزكاة لطالب العلم لا العابد

فقد أجاز الفقهاء أن تُعطى الزكاة لطلاب العلم المتفرغين له، ولا تعطى للعباد المتفرغين للعبادة؛ لأن العلم نفعه متعدٍّ، والعبادة نفعها قاصر، والعلم يفيد الفرد والمجتمع في آن واحد، أما العبادة فأثرها على الفرد وحده، وإن انتفع المجتمع بأثرها على الفرد بجعله مواطنا صالحا نافعا للمجتمع.

فقد نص الفقهاء على جواز إعطاء الزكاة لطالب العلم، وقد صرح بذلك الحنفية والشافعية، والحنابلة، وهو ما يفهم من مذهب المالكية، إذ إنهم يجوزون إعطاء الزكاة للصحيح القادر على الكسب، ولو كان تركه التكسب اختيارا على المشهور.

أما المذهب الحنفي، فيقول صاحب الدر المختار: “طالب العلم يجوز له أخذ الزكاة ولو غنيا، إذا فرّغ نفسه لإفادة العلم واستفادته، لعجزه عن الكسب، والحاجة داعية إلى ما لا بد منه”، وعلق ابن عابدين شارحا فقال: “ورأيته في جامع الفتاوى ونصه وفي المبسوط: لا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابا، إلا إلى طالب العلم، والغازي، ومنقطع الحج”.

وزاد الإمام ابن عابدين كلامه شرحا فقال: “قوله: (من أن طالب العلم) أي: الشرعي، (قوله: إذا فرّغ نفسه) أي: عن الاكتساب. المراد: أنه لا تعلق له بغير ذلك، فنحو البطالات المعلومة، وما يجلب له النشاط من مذهبات الهموم، لا ينافي التفرغ، بل هو سعي في أسباب التحصيل”.

ثم بين ابن عابدين الأسباب التي تجيز استحقاق طالب العلم الزكاة، فقال: “المعنى: أن الإنسان يحتاج إلى أشياء لا غنى عنها، فحينئذ إذا لم يجز له قبول للزكاة مع عدم اكتسابه؛ أنفق ما عنده، ومكث محتاجا، فينقطع عن الإفادة والاستفادة، فيضعف الدين لعدم من يتحمله، وهذا الفرع مخالف لإطلاقهم الحرمة في الغنى، ولم يعتمده أحد. قلت: وهو كذلك. والأوجه تقييد بالفقير، ويكون طلب العلم مرخصا لجواز سؤاله من الزكاة وغيرها، وإن كان قادرا على الكسب، إذ بدونه لا يحل له السؤال كما سيأتي. ومذهب الشافعية والحنابلة: أن القدرة على الاكتساب تمنع الفقر، فلا يحل له الأخذ، فضلا عن السؤال، إلا إذا اشتغل عنه بالعلم الشرعي”.

اشتراط النجابة في طالب العلم ليستحق الزكاة

بل رأينا مذاهب فقهية، تضع شرطًا آخر لاستحقاق طالب العلم الزكاة، وهو: أن يكون نجيبًا، وليس خاملًا، ففي المذهب الشافعي نجد قولهم إن من “كان مشتغلًا بالعلوم الشرعية؛ فلو اكتسب لتعطل عليه الاشتغال، فلا يقدح ذلك في استحقاقه، صرح به في الحالة الأولى القاضي الحسين في “تعليقه”، والغزالي في “فتاويه”، وفي الحالة الثانية: الجمهور، موجّهين له بأن تحصيلها من فروض الكفايات، وفي “الروضة” أن الدارمي ذكر فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان نجيبًا يرجى تفقُّهه، ونفع الناس به استحق، وإلا فلا. وبالاتفاق لا يُعطَى للمعطل المعتكف في المدرسة، ولا يتأتى منه التحصيل، إذا كان قادرًا على كسب كفايته”.

وقال الإمام النووي: “ولو قدر على كسب يليق بحاله إلا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية، بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع من التحصيل، حلت له الزكاة؛ لأن تحصيل العلم فرض كفاية، وأما من لا يتأتى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة، إذا قدر على الكسب وإن كان مقيما بالمدرسة”.

وسئل الإمام ابن حجر الهيتمي: هل يحل أخذ الزكاة لمن اشتغل بعلم شرعي ليشتري بها كتبًا وكل ما يعينه على طلب العلم أو لا؟

فأجاب: “إن من اشتغل عن كسبه الحلال اللائق به، الذي يكفيه ويكفي مُمَوّنه بتعلم شرعي، أو آلة له، وكان يتأتى منه، أو يتعلم القرآن دون نوافل العبادات، جاز له أن يأخذ من الزكاة بقدر كفايته؛ وكفاية مُموَنه اللائقة بهم العمر الغالب، ثم ما أخذه يصير ملكه، فله أن يصرفه في شراء كتب علوم الشرع وآلاتها”.

وأما الحنابلة فقد قالوا: “وإن تفرغ قادر على التكسب للعلم الشرعي -وإن لم يكن لازما له- وتعذر الجمع بين العلم والتكسب أُعطي من الزكاة لحاجته”.

وفرق أحد العلماء بين طالب العلم النبيه النشط والبليد، فقال: “وذكر الدارمي في المشتغل بتحصيل العلم ثلاثة أوجه: أحدها: يستحق وإن قدر على الكسب. والثاني: لا، والثالث: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع المسلمين به استحق وإلا فلا”.

وحصر الفقهاء القدامى إعطاء طالب العلم من الزكاة، بمن يطلب العلم الشرعي، لأنه علم لا يرى الناس فيه نفعا دنيويا، فربما لا يجد من يرعاه، بينما بقية العلوم تجد رعاة لها من غير الزكاة، كالوقف، والهبات، أو عن طريق المؤسسات التجارية، والقرآن الكريم لا يفرق بين طلب العلم الديني والعلوم الأخرى، فكلها علوم مطلوب التفقه فيها، سواء للحاجة الدينية أو الدنيوية، وكلاهما من أعمال الآخرة.

فنرى أن المقصود بالعلم هنا: مطلق العلم الذي يفيد الأمة، وينفع المجتمع، ويرتقي بالفرد، وهذا ما نلمحه من فتوى في المذهب الحنبلي حيث يعتمدون فتوى ابن تيمية: “ومن ليس معه ما يشتري به كتبا يشتغل فيها، يجوز له أخذه من الزكاة ما يشتري له به منها ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها”.

أرادت الشريعة الإسلامية بدعم طالب العلم ماديا، ألا يحمل هم لقمة العيش، أو الانشغال بشيء غير العلم، وألا يخرج الرأي الفقهي منه تبعا لأحد، بل خدمة للعلم والحق فقط. وهو ما رأيناه في كبرى الدول الغربية حاليا، فنجد جامعات قامت على ما يسمى بالوقف، مثل: جامعة هارفارد، وغيرها من الجامعات الكبرى الغربية، تقوم على ما يسمى في ديننا بالوقف، ولو كان عندهم نظام الزكاة لاستفادوا منه، كما استفادوا من الوقف الإسلامي.

المصدر : الجزيرة مباشر