صلاح الدين والأقصى الأسير

المسجد الأقصى
الطريق إلى المسجد الأقصى (وكالة الأناضول)

تأتي ذكرى وفاة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في الرابع من مارس /آذار 1193 بينما تشتعل الهجمات الصهيونية على أهالي غزة في فلسطين، وفي المقابل تزداد وتيرة المقاومة الفلسطينية وتكبيدها لجيش الاحتلال الصهيوني خسائر كبيرة في كل مناطق القتال في غزة، ويستمر صمود الأبطال من أهل غزة وفلسطين في مواجهة المجازر البشرية التي يرتكبها الكيان الصهيوني، والحصار الإنساني الذي يعاني منه الجميع في غزة مع عجز عربي، إسلامي، ودولي عن إيقاف المجازر.

لا يتوقف حلم تحرير فلسطين وبيت المقدس عن مراودة المخلصين كلهم من أبناء الأمة، ويتردد اسم صلاح الدين الأيوبي سلطانًا للمسلمين استطاع تحرير فلسطين وبيت المقدس من الاحتلال الصليبي الذي جاء في ليلة 27 رجب 583 هجرية 12 أكتوبر 1187 ميلادية وبعد أكثر من 80 عامًا من احتلاله، ومن ينظر إلى هذا الحلم الآن قد يجد  الصعوبات كلها التي تقف أمام تحقيقيه في ظل العجز العربي والإسلامي حتى عن توصيل المساعدات الضرورية اللازمة لإنقاذ أطفال غزة من الجوع والعطش، فضلًا عن العجز رغم كل الإمكانات العربية والإسلامية عن توفير الدواء، والطاقة، ومستلزمات المستشفيات والرعاية الصحية للمصابين والجرحى.

هل يأتي صلاح الدين؟

تناقض كبير بين أوضاع ما قبل ظهور صلاح الدين الأيوبي على الساحة الإسلامية والآن، لم تكن الأمة العربية آنذاك مقسمة تلك القسمة القطرية التي يمر بها العالم العربي في الوقت الحالي، كانت هناك الدولة الإسلامية والخلافة العباسية، رغم أن مصر في تلك الفترة كانت تحت الخلافة الفاطمية المنقسمة عن الخلافة العباسية، ولكن وقبل أن يؤسس صلاح الدين الأيوبي الدولة الأيوبية كان قد شارك في وضع قدمه في ديوان الوزارة في مصر، واستطاع أن ينهي الدولة الفاطمية في مصر ويعيدها تحت لواء الخلافة العباسية، والسلطان نور الدين زنكي الذي كان صلاح الدين يدين له بالولاء، وكانت عودة مصر إلى حضن الخلافة الخطوة الأولى في تحرير القدس.

عودة إلى الوضع الآني نجد أن العالم العربي قد أصبح دول قطرية لكل دولة جيشها، ورئيسها، ملكها، ولكل دولة علاقاتها المختلفة التي تصل إلى حد التناقض بين تلك الدول وبعضها، بل إذا نظرنا نجد أن بعض الجيوش قد تحارب بعضها بعضًا داخل الدولة نفسها من أجل السلطة.

بينما بعضها يجيش الأسلحة بمليارات الدولارات من الغرب من أجل الحفاظ على العروش وكراسي الرئاسة، وبعضها انخرط في معاهدات واتفاقات مع الكيان الصهيوني، وتناسى العداء وصارت التجارة والاستثمار عملها، خريطة تبدو متماسكة جغرافيًا، تاريخيًا، ثقافيًا، وعقديًا على الورق فقط، أما إذا ما تأملتها فستجدها قد أصبحت متناثرة، وصراعات خفية بين الاتجاهات والأفكار تصل إلى حد العداء والدم.

ربما نراها هكذا خريطة مظلمة لا يأتيها الضوء سوى من أصغر بقعة جغرافية عليها، من غزة حيث تخوض المقاومة الفلسطينية أشرف معارك الأمة العربية والإسلامية بصمودها المبهر في مواجهة عدوان ليس صهيونيًا فقط، بل تشارك فيه كبرى خمس دول بالدعم المادي والأسلحة والجنود، ويشارك فيه الأشقاء بالصمت والعجز عن أي مساعدة، هذا الضوء الذي ينبع إلينا من أرض غزة قد يتخيله البعض بسيط، لكنه طريق النصر.

قد يذهب المرجفون والمشككون في القدرات الإيمانية والعقيدة فيرون أنه انتحار، ومجازفة غير محسوبة وهؤلاء وجدوا في كل زمان ومكان وأدوا الوظيفة نفسها مع كل محاولة للمقاومة والتحرر، فالرجفة في قلوبهم يصدرونها لمن يؤمنون بالنضال والمقاومة.

الوحدة خطوة على الطريق

لم تكن معركة حطين 1187 ميلادية أولى محاولات صلاح الدين الأيوبي نحو تحرير فلسطين، فقد سبقتها محاولة في 1177 ميلادية، قاد صلاح الدين حملته الأولى واستطاع تحرير عسقلان، والرملة في فلسطين، ولكنه تعثر في نهر تل الصافية، وهزم صلاح الدين في أولى محاولات تحرر فلسطين هزيمة كبيرة، واستطاع أن ينجو مع عدد قليل من جنوده، ورغم ذلك لم يستسلم صلاح الدين فقد خسر معركة من الحرب التي ستمتد طويلًا بين العالم الإسلامي-العربي والغرب الصليبي-الصهيوني تلك الحرب التي نشهد إحدى معاركها الآن على أرض غزة.

كان على صلاح الدين أن يلملم أطراف الأمة وأن يوحدها تحت راية واحدة هي راية الدولة الأيوبية ليستطيع تحقيق حلمه في تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصليبي، توجه صلاح الدين إلى الشام حيث يحكمها السلطان الصبي إسماعيل بن نور الدين زنكي الذي كان عمره 11 عامًا، واستطاع صلاح الدين أن يضم الشام-سوريا إلى دولته الوليد، وتوج سلطانًا وتم الاعتراف بيه من قبل الخليفة العباسي، وأصبح له رايته، وأصبح أخوه الملك العادل حاكمًا على مصر، وبدأ صلاح الدين بعد توحيد مصر وسوريا الإعداد لتحرير القدس، والمسجد الأقصى المغلق أمام المسلمين 80 عامًا، أدرك صلاح الدين أهمية وحدة الأمة وعدم تفككها أمام الأعداء.

رغم الصراعات التي كانت تمر بيها الأمة في ذلك الوقت بين الدولة العباسية، والدولة الأيوبية الوليدة، وبين بقايا الدولة الفاطمية، إلا أن الجميع كانت له رايته الواحدة، ولم تكن تلك المنافسات على قيادة الأمة تشتت توجه الأمة ووحدتها الإسلامية العامة، ولم تجعل من العدو حليفًا أو صديقًا للبعض، وحتى إن وجدت بعض المصالح التجارية فلم تجعل من أحدهم عدوًا لأمته، بل حوصر الخلاف في سبل حماية الدولة، لذا فإن صلاح الدين تيقن من أهمية توحيد الأمة تجاه العدو الصليبي الذي يحتل فلسطين.

قائد عربي جديد

بعد إتمام الوحدة بدأ صلاح الدين في توجيه جيوشه نحو فلسطين لتحريرها، وخاض العديد من المعارك استطاع أن يتغلب على الجيش الصليبي في معركة حطين التي كبد فيها الصليبين خسائر ضخمة في القتلى والأسرى، وتم انسحاب القادة الصليبين من القدس بعدما دفعوا الفدية لأسراهم من الرجال والنساء، وقد تعامل السلطان صلاح الدين مع الأسرى بمروءة وشرف، وتم تحرير بيت المسجد في ليلة الإسراء والمعراج فكانت البشرى للمسلمين.

السؤال الآن هل نحن في انتظار قائد عربي جديد رغم الوضع الذي يبدو بأسًا إلا من تلك النقطة المضيئة على يد المقاومة في غزة وفلسطين؟ من الصعب أن تجد إجابة سهلة أو عاجلة عن سؤال مثل هذا في ظل أوضاع ندركها جميعًا في الأراضي العربية كافة، وفي ظل عجز عربي شامل حتى في الكلام، أيضًا بعدما تشتت الأمة وزادت الفرقة بين أبنائها، وصار لكل فرد عربي ملكوته الفكري الخاص حتى يصعب الوحدة بين القلة القليلة منا.

مع ذلك وربما لذلك أصبح من الحتمي تاريخيًا ظهور مثل هذا القائد الآن فمتى أظلمت الدنيا ولم يأتها فجرها ونهارها، متى استبد المستبدون ولم يظهر العادل، ومتى اشتد الظلم ولم تكن رسالة الحق والعدل وليدته، لدي إيمان أن بوادر هذا الفجر قد أشرقت في غزة، ومهما كانت التضحيات التي يقدمها أهلنا الأبطال هناك فإنهم يكتبون تاريخًا جديدًا لتلك الأمة، وفي معارك الأمة الكبرى لا يحسب تضحياتها بقدر ما يحسب نجاحها النهائي في إعادة وحدتها العقدية والفكرية، وانتصارها في معركتها، وقد كان انتصار المقاومة الفلسطينية منذ بدأت عملية “طوفان الأقصى” وصمودها حتى اليوم ضد الهجمة الصهيونية الغربية بداية ميلاد الفجر القادم للأمة العربية والإسلامية، وأنه لجهاد نصر أو استشهاد.

المصدر : الجزيرة مباشر