الإسلام وإغناء الفقير من الزكاة

(غيتي)

هناك نظرة خاطئة عن الزكاة، وإعطاء الفقراء والمساكين منها، فالبعض يعطي بطريقة تجعل الفقر مستمرًا، والفقير دائم الفقر، وهو فهم مغلوط في عمل الأشخاص والجمعيات والهيئات لفلسفة الإسلام من الزكاة، ولكم يعطى الفقير منها؟ ولقد كان لدى الفقهاء الكبار تصور للزكاة، وكيف يعطى منها الفقير والمسكين، وغيرهم من ذوي الحاجة، وهو أن يعطى كل محتاج حتى تنتهي حاجته، ويصل إلى درجة الاكتفاء والاستغناء، لأنك لو أعطيته مرة، وهو فقير، فمعنى ذلك استمرار فقره، واستمرار طلبه، وزيادة عدد الفقراء، وهدف الإسلام: إنهاء الفقر، وحل مشكلة الفقراء، وذوي الحاجة.

فقد كان السؤال الفقهي المطروح دائمًا في الزكاة: كم يعطى الفقير منها؟ فقد فهم المزكي مقدار ما يخرج من زكاته، ومم تخرج؟ ولمن يعطيها؟ وهي مصارف ثمانية: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون، والرقاب، وابن السبيل، وفي سبيل الله، لكن تفصيل كم يعطى كل شخص منهم؟ كان هذا موضع الخلاف بين الفقهاء، وخلافهم كان يدور في دائرة: إنهاء حاجة الفقير، سواء كانت لمدة متوسطة، أو لمدة طويلة.

اتجاهان فقهيان في كم يعطى الفقير من الزكاة:

فقد ذهب الفقهاء لاتجاهين فقهيين رئيسين، رأي يقول بإعطائه ما يكفيه عامًا كاملًا، بحيث يغطي حاجته طوال هذا العام ولا يحتاج لمد اليد، أو طلب المعونة من أحد، لأن الزكاة تجب كل سنة، فعلينا أن نغنيه مدة الزكاة ذاتها، وهو رأي فقهي وجيه، يراعي حاجة الإنسان، على مدى قصير.

والمذهب الآخر، وهو مذهب الشافعية، كان أوسع نظرًا، وأعمق تفكيرًا في حالة الفقير، ومن يدور في فلكه من أهل الحاجة، فجعلوا الزكاة بما تحقق كفايته، لا بما يحقق حاجته لسنة أو أقل، سواء كانت هذه الكفاية تتحقق بمال يكفي عمره الافتراضي، أو بما يعينه على عمل يؤدي ذلك، وننقل كلام الفقهاء، لنرَ إلى أي مدى كان التفكير الفقهي في تراثنا تفكيرًا يراعي مصالح الإنسان، ويحلها حلًا جذريًا لا شكليًا، ولا مؤقتًا.

إعطاء الفقير ما ينهي فقره:

نظر الإمام الشافعي إلى من يستحقون الزكاة على مستويين، هناك مستوى مطلوب أن نزيله، فيزول عنه الاسم، كالفقر والمسكنة والرق، وهناك مستوى لن يزول الاسم لأنه باق بحكم وظيفته، مثل: مصرف العاملين عليها، فالعامل على الزكاة هذه وظيفته، يقول الشافعي رحمه الله: (فإن قال قائل: لم أعطيت الفقراء والمساكين والغارمين حتى خرجوا من اسم الفقر والمسكنة والغرم، ولم تعط العاملين وابن السبيل حتى يسقط عنهم الاسم الذي له أعطيتهم ويزول؟

فليس للاسم أعطيتهم ولكن للمعنى، وكان المعنى إذا زال زال الاسم ونسمي العاملين بمعنى ‌الكفاية، وكذلك ابن السبيل بمعنى البلاغ، لو أني أعطيت العامل وابن السبيل جميع السهمان وأمثالها لم يسقط عن العامل اسم العامل ما لم يعزل، ولم يسقط عن ابن السبيل اسم ابن السبيل ما دام مجتازًا، أو كان يريد الاجتياز فأعطيتهما، والفقراء والمساكين والغارمين بمعنى واحد، غير مختلف، وإن اختلفت أسماؤه كما اختلفت أسماؤهم، والعامل إنما هو مدخل عليهم صار له حق معهم بمعنى كفاية وصلاح للمأخوذ منه والمأخوذ له، فأعطي أجر مثله وبهذا في العامل مضت الآثار، وعليه من أدركت ممن سمعت منه ببلدنا.

ومعنى ابن السبيل في أن يعطى ما يبلغه، إن كان عاجزًا عن سفره إلا بالمعونة عليه، بمعنى العامل في بعض أمره، ويعطى المكاتب ما بينه وبين أن يعتق قل ذلك، أو كثر، حتى يغترق السهم، فإن دفع إليه، فالظاهر -عندنا- على أنه حريص على أن لا يعجز، وإن دفع إلى مالكه كان أحب إلي وأقرب من الاحتياط).

وزاد الإمام الماوردي الشافعي المذهب شرحًا في الأمر وتبينًا، فقال: (من يعطى لمعنى يقترن بالاسم، لا يراعي زواله عنه، فأما المعطون بالاسم حتى يزول عنهم فأربعة أصناف.

الفقراء يعطون حتى يستغنوا فيزول عنهم اسم الفقر، والمساكين يعطون حتى يستغنوا فيزول عنهم اسم المسكنة، والمكاتبون يعطون حتى يعتقوا فيزول عنهم اسم الكتابة، والغارمون يعطون حتى يقضوا ديونهم، فيزول عنهم اسم الغرم، فأما المعطون لمعنى يقترن بالاسم ولا يراعى زوال الاسم عنه فأربعة أصناف).

عمل مشروع للفقير لإنهاء فقره:

أما الإمام الجويني الفقيه الشافعي، وصاحب أحد أهم الكتب في الفقه السياسي الإسلامي، فنظر نظرة مكملة لهذا الرأي الفقهي العظيم، ولكنه مع بيان الرأي الفقهي، وضع تصورًا لحل مشكلة المحتاجين من الفقراء والمساكين وغيرهم، عندما نعطيهم من الزكاة، فقال: (للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدّر بمدة سنة، فإن الذي يملك عشرين دينارًا يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموّل مالًا يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرّ الزمان)، فهنا قرر الجويني أن يعطى المسكين والفقير ما يكفيه طوال عمره.

ثم بيّن إن كان هذا الفقير لا حيلة له في التجارة، أو ليس لديه خبرة بعمل يغنيه عن الحاجة، فقال: (وإن كان لا يحسن تصرفًا، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة، فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالًا جمًّا لا يليق بقواعد الكفايات في العادة.

والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملكناه مالًا يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطّه من الكفاية شيئًا، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية.

وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائمًا يتَّجر له، وإن عسر ذلك، قال: فالظاهر عندي أنه لا يزاد على نفقة سنة، فإنه لا ينضبط، وللسنة اختصاص بالزكاة، فإنها تجب في السنة مرة، فنزلت في كفاية المحتاجين منزلة النفقة الخاصة في كفاية من ينفق عليه، وقد صح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدخر لأهله قوت سنة).

كانت تلك النظرة الفقهية السباقة لعلماء الشريعة، في التعامل مع فريضة الزكاة، فهي ليست دواء مؤقتًا يسكن به الألم، بل نظروا إليها نظرة أكبر وأهم، وهو ما كان سببًا في تأليف شيخنا القرضاوي موسوعته العظيمة: (فقه الزكاة)، وكتابه: (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟)، وقد كان ذلك ردًا على من ظنوا أن الزكاة في الإسلام هي تسول، وليست عملًا تنمويًا، ينهض بالفقير حتى ينتهي فقره.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر