عشرة أيام في حياة الرسول

من أفضل ما يستروح به المرء عن نفسه في شهر الصيام رمضان: تلاوة القرآن الكريم، وقراءة السيرة النبوية، إذ إنها التجسيد العملي لتعاليم القرآن الكريم، سواء شرحا، أو تطبيقا لها، وقد تعددت مشارب الكتاب عن هذه السيرة العطرة، بين من يتناول أحداثها من الميلاد النبوي الشريف، حتى لحوقه بالرفيق الأعلى، ومنهم من يتخذ محطات معينة من هذه السيرة، يسلط عليها الضوء، ويخرج منها بدروس وعبر وعظات.

ومن القلائل المعاصرين الذين تعاملوا مع السيرة النبوية، بمنهج يجمع بين السرد التاريخي، وبعض المنعطفات المهمة في هذه المسيرة النبوية: الأستاذ خالد محمد خالد، مع قلم أدبي رشيق، يجمع بين العمق، والسهولة، فقد كان أسلوبه سهلا ممتنعا، ومن أهم كتبه التي تناولت مواطن من السيرة، كتابه: “عشرة أيام في حياة الرسول”، وهو كتاب لم ينل حظه من الشهرة لدى خالد، كما نالت كتبه الأخرى، خاصة كتابه: “رجال حول الرسول”، رغم أن الأول عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني عن حياة صحابته، وإن لم يخل من حياة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فحياة صحابته تمر من خلال حياته، وتعاليمه، من خلال أقرب الناس إليه.

معنى اليوم

ولم يقصد خالد محمد خالد، بالأيام، أو اليوم، المعنى الحرفي لليوم، وإن طابق ذلك أكثر الأيام التي اختارها، وإنما قصد باليوم: الظرف التاريخي للمناسبة أو الواقعة التي تشد الانتباه إليها، سواء تمثل هذا الظرف في يوم واحد، أو تمثل في بضعة أيام، فالوعاء الزمني للموقف المختار، هو اليوم الذي نتابع أحداثه الجليلة مطالعين من خلالها وخلاله أروع ما عرف البشر من خلال النسك، وعظمة المقصد، واستقامة السبيل.

اختار خالد محمد خالد عشرة أيام تعطي صورة مجملة لا تخلو من التفاصيل عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والأيام التي اختارها هي: يوم التحكيم، ويوم الوحي، ويوم الطائف، ويوم العقبة، ويوم حمزة، ويوم الحديبية، ويوم الفتح، ويوم حنين، ويوم التخيير، ويوم الوداع.

ولا يتسع المقام في هذا المقال لتناول الأيام العشرة كما تناولها خالد محمد خالد، بل نأخذ بعضا منها، لتدلنا على قيمة فكرية وأدبية عالية لكتاب يتحدث عن لمحات من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونأخذ يومين من الأيام العشرة التي تناولها، وهما: يوم التحكيم، ويوم الوحي، ونترك المزيد من الاطلاع للقارئ الكريم، ليدور في رحلة أدبية وروحية راقية في سطور الكتاب، وما دبجه يراع خالد محمد خالد، وما أكثر ما حلق في أجواء السيرة والسنة والقرآن الكريم.

بدأ خالد كتابه بالحديث عن يوم التحكيم، وهو اليوم الذي اختلفت فيه قريش عند تجديد بناء الكعبة، وبقي وضع الحجر الأسود، فأي قبيلة تنال هذا الشرف، والكل تنافس على ذلك، واختلفوا، وكادوا يشهرون السيوف للقتال لذلك، ولكنهم ارتضوا أن يحكموا بينهم أول داخل عليهم في المكان، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء برداء ووضع فيه الحجر الأسود، وطلب أن تمسك كل قبيلة بطرف من الرداء، ليحمل الجميع الحجر، ويضعه هو بيده الشريفة في موضعه.

هذا الموقف الذي كتب في عدة أسطر، راح خالد يحلل تفاصيله، ودلالات هذا الحدث، ليس على مستواه المحلي البسيط فقط، أو على مستوى لحظة حل المشكلة، بل أخذ منه خالد أنه يدل على مستوى ونمط تفكير لدى محمد صلى الله عليه وسلم في حل المشكلات التي تواجه الناس، وهي دلالة على الرسالة التي سيأتي بها، كيف ستضمن بكل تفاصيلها حلا لمشكلات الناس، المتعلقة بالفرد والمجتمع، والحياة والموت.

يوم الوحي ودلالة بداية القرآن بـ”اقرأ”

ومن الأيام المهمة التي تناولها خالد، يوم الوحي، يوم أن نزل عليه الأمين جبريل عليه السلام، بآخر رسالات السماء، ونزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، إلى آخر الآيات الكريمة في سورة العلق، وراح خالد محمد خالد يناقش مسألة أخرى في واد آخر، غير ما يتناوله كتاب السيرة في هذا الحادث، راح يناقش لماذا كانت البداية بالأمر بالقراءة، وأن هذا اليوم؛ يوم الوحي، هو يوم الإسلام.

ولم تكن أولى كلمات كتاب الإسلام: “صلّ” ولا “صم” ولا “تعبد”، على أهمية ذلك كله، بل كانت: اقرأ، هذه الكلمة التي لخصت جوهر الإسلام ومستقبله.

فهو لن يكون دين تكريس ديني فحسب، ولا دين سلوك فحسب، إنما هو قبل ذلك، وفوق ذلك دين حضارة.. جاء ينشيء عالما جديدا بكل ما تحمل كلمتا “عالم” و”جديد” من معنى ودلالة.

ثم راح خالد يطرح سؤالا مهما، وهو: ترى لو لم يكن يوم الوحي هذا، بين أيام الدنيا، فأي مصير كانت البشرية ستلاقيه؟! ويجيب بأن الكلمة التي استهل بها الوحي نجواه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقدم لنا أروع وأجمع وأوجز وأنجز جواب.. فإذا كان العلم، جوهر كل حضارة أقامها الإنسان على ظهر أرضه، وكوكبه، فإننا نستطيع أن ندرك في يسر لون المصير الذي كانت البشرية ستلقاه وتتردى فيه لو لم يكن يوم الوحي.

قيمة وأهمية ما كتبه خالد في السيرة النبوية، وسير الصحابة، أنه كان الطريق الذي تراجع به خالد عن فكرته القديمة، التي نفى فيها وجود دولة في الإسلام، وذلك في كتابه: “من هنا نبدأ”، الذي تراجع عنه بكتابه: “الدولة في الإسلام”، ولكن بين الكتابين ما يقرب من ثلاثين عاما، كانت الكتابات التي تناول فيها خالد السيرة النبوية، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتابه: “رجال حول الرسول”، وكتبه الخمسة عن الخلفاء الراشدين، التي حملت عناوين: وجاء أبو بكر، وبين يدي عمر، وفي رحاب علي، ووداعا عثمان، ومعجزة الإسلام، وعمر بن عبد العزيز، التي جمعها في مجلد واحد فيما بعد، تحت عنوان: خلفاء الرسول.

وهو ما اعترف به خالد في شجاعة نادرة، فقد قارن الشيخ الغزالي رحمه الله بين موقف خالد، وموقف الشيخ علي عبد الرازق رحمه الله في كتابه: “الإسلام وأصول الحكم”، فقال: إن خالدا كان أشجع في إعلانه برأيه، وأشجع في إعلانه بتراجعه، فقد كتب خالد في مقدمة كتابه: “الدولة في الإسلام”، الأسباب الفكرية والزمنية التي جعلته يكتب كتابه الأول، ثم الأسباب التي جعلته يتراجع عن فكرته، وهي كتبه التي ألفها عن السيرة النبوية والصحابة الكرام، وبخاصة الخلفاء الراشدون.

المصدر : الجزيرة مباشر