من الإصلاح الاقتصادي إلى رأس الحكمة.. أوهام وأحلام!

مبنى صندوق النقد الدولي (الأناضول)

من بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إلى إطلاق مشروع رأس الحكمة في فبراير/شباط 2024، تكون قد مرت 8 سنوات لم تشهد مصر مثلها بنفس الدرجة من الشدائد منذ إعلان الجمهورية قبل 71 عامًا.

وعند إطلاق ما يُسمى الإصلاح الاقتصادي تم التبشير بأن البلاد ستدخل عهدًا جديدًا سمته اقتصاد قوي، وتنمية مستدامة، ونهضة شاملة، وخير عميم للشعب المطحون تاريخيًّا.

ولكن مع توالي السنوات فإن أوضاع الاقتصاد كانت تتأزم، وأحوال المواطنين تنحدر، ثم أصبح يتضح تدريجيًّا أنه لم يكن إصلاحًا بقدر ما كان تأزمًا اقتصاديًّا وبؤسًا اجتماعيًّا.

ديون ضخمة، وتراجع قياسي لسعر صرف الجنيه أمام الدولار ومختلف العملات، وارتفاع أسعار مُذهل دون سقف وبوتيرة جنونية، واتساع خط الفقر، وسقوط شرائح اجتماعية متزايدة أسفل هذا الخط، وتعثر مصانع وشركات عن العمل والإنتاج بكامل طاقتها أو بجانب معقول من قدرتها التشغيلية لعدم توفر مستلزمات الإنتاج بسبب ندرة العملات الصعبة لتمويل الواردات، وأزمة نقص النقد الأجنبي طالت واردات السلع الغذائية الأساسية.

برنامج الإصلاح، الذي لم يكن إصلاحًا، ربما كانت النيات حسنة بشأنه، وربما كانت الخطط والأفكار والاستعدادات غير مكتملة وجانب من المشروعات غير ضروري، أو كان متسرعًا أو طموحًا أكثر من اللازم، أو كان أكبر من القدرات والإمكانيات المتاحة، فانحرف عن مساره، ولم تتحقق أهدافه.

إصلاح بالديون

الإصلاح المفترض ارتبط بالاستدانة من صندوق النقد بقرض قدره 12 مليار دولار، وهو أكبر اقتراض في تاريخ مصر الحديث، وليس هناك إصلاح يعتمد على الديون، ولو اكتفت هذه المرحلة من البرنامج بهذا القرض فقط، لكانت وطأة الأزمة والارتهان للخارج ومطالبه يمكن تحملها، ولكن الاستدانة تواصلت وتنوعت وزادت كثيرًا، وصارت فوق القدرات والمداخيل المالية، حتى بلغت الديون مستوى قياسيًّا.

تبلغ الديون الخارجية حاليًّا نحو 165 مليار دولار، والجانب الأكبر منها تمت استدانته خلال 6 سنوات فقط، وهذا المبلغ كان كفيلًا بإصلاح جذري وشامل لأي اقتصاد ولو كان هشًّا، لكن العكس حصل، ديون هائلة واقتصاد يصير مكبلًا بأزمات لا حصر لها، وفجوات تمويلية كبيرة، فلا قطاع ولا مجال عمل وإنتاج ولا نشاط إلا يواجه مشكلات جمّة.

سبع سنوات صعبة بالفعل، والثامنة في برنامج الإصلاح، الذي لم يعد كذلك، بدأت قبل أشهر ولم تكن هي بداية الأعوام السِّمان حيث الحصاد والرخاء، بل شهدت غلاءً حادًّا وأوضاعًا اجتماعية عنيفة ونقص منتجات وشح معروضات في الأسواق وشدة لم يمر مثلها على الناس حتى في أصعب الأوقات بعهود سابقة.

ومن المفارقات أن انتخابات رئاسية جرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسارت كما أرادت السلطة، وخرجت نتائجها وفق كل ما ترغب فيه وأكثر، وفي مثل هذه الأجواء المتوافقة مع أهداف السلطة واستمراريتها في الإمساك بمفاصل الحكم فإن الأوضاع العامة الاجتماعية والمعيشية يُفترض أن تشهد تحسنًا وسرورًا وتفاؤلًا، لكن العكس هو الذي يحدث، حيث تكبر وتتعقد الأزمات، ويطحن الغلاء عظام المواطنين.

أوهام الرخاء

الحاصل في مصر ليس طبيعيًّا، وهو النتيجة المنطقية لمقدمات غير منضبطة أو مخططة جيدًا أو مدروسة بشكل علمي ولم تضع في حساباتها وجود شعب ضخم نحو ثلثه في دائرة الفقر واحتياجاته كثيرة واقتصاده ليس معافًى بالقدر الكافي، ويعاني منذ عقود رغم تنوع هذا الاقتصاد وقدرته على النهوض لو تم التعامل معه بشكل صحيح ومنظم ومتدرج، وتم التوظيف الجيد للموارد المتاحة وانتقاء المشروعات الضرورية والاهتمام بالمورد البشري ثروة مصر الحقيقية.

ويسبق كل ذلك أن الاقتصاد لا يتحرك أو ينشط أو يزدهر بمعزل عن السياسة المنفتحة فلا استثمار محليا أو أجنبيا سينفذ مشروعات ما لم تكن البنية السياسية آمنة ومطمئنة وموثوقا فيها، وما لم تكن هناك مساحة جيدة من حرية الرأي والتعبير، وما لم يشعر المستثمر بأن منظومة العدالة متحققة تمامًا، إذ رغم الإنفاق الهائل على البنية التحتية التي استهلكت أموالًا ضخمة من الموارد العامة والديون فإنها لم تجذب الاستثمارات لأن الثقة متأرجحة والحياة السياسة غير منفتحة أو مضمونة أو مأمونة.

الإصلاح الاقتصادي دخل في نفق من الأوهام، أوهام الرخاء، وأنه بعد الصبر والتحمل ستكون هناك مصر أخرى يشعر شعبها برغد العيش وسعادة الحياة، وتواصلت الوعود من عام إلى آخر حتى وصلنا إلى واجهة الحائط، ولا يزال يُستنَد إلى مبررات داخلية وخارجية لإلقاء مسؤولية التعثر عليها وحدها.

أحلام رأس الحكمة

ومن السنوات الصعبة التي بدأت مع مقولة إصلاح الاقتصاد، إلى بدء دورة جديدة من الوعود والأحلام مع الإعلان عن مشروع رأس الحكمة السياحي، هناك خطاب تبشيري ودعائي غير مسبوق أيضًا بحل المشاكل ووضع نهاية للأزمات وتحسين الأوضاع العامة والرخاء مع تنفيذ هذا المشروع.

ولا أريد أن أصادر على المستقبل أو أكون متشائمًا، رغم أن أكثر المتشائمين لم يكن يتوقع أن تصل الأوضاع إلى ما وصلت إليه خلال العشرية الأخيرة، أو أن تصل قسوة المعيشة إلى ما فوق طاقة الميسورين من الناس، والناس في مصر لم يكونوا يومًا في قلق من يومهم قبل غدهم كما صاروا الآن.

الحكومة اتبعت طريقة الإثارة والتشويق قبل الإعلان عن المشروع، والإعلام يُحدث ضجيجًا حوله، ويصور للناس أن الخلاص النهائي من كل المشاكل في هذا المشروع المشترك مع دولة الإمارات، وخطورة ذلك أنها نفس الأجواء التي رافقت إطلاق الإصلاح الاقتصادي.

أخشى ألا تكون الأحلام العريضة لرأس الحكمة بمستوى الخطاب عنه، وأن يكون استثمارًا مفيدًا للبلد الشريك الممول له، ويأتي عائده محدودًا على مصر التي لا تحتاج إلى منتجعات بقدر ما تحتاج إلى مزارع ومصانع وإنتاج وتصدير وتعليم وصحة وعدالة اجتماعية وسياسة حرة وشعور الفرد بقيمته وبأنه شريك حقيقي في صنع حاضره ومستقبله.

المصدر : الجزيرة مباشر