عندما رفض القرضاوي زيارة السودان بسبب الترابي

الشيخ يوسف القرضاوي

تربط العلامة القرضاوي رحمه الله صلة قديمة وطويلة بالمفكر الكبير حسن الترابي رحمه الله، وقد كانت بينهما صداقة عميقة، لم تزدها الأيام إلا قوة ومتانة، وقد عرف كل منهما الآخر عن طريق التنظيم الإخواني، وعن طريق المجال الفكري والفقهي الذي يجمع بينهما، وإن خرج كل منهما من التنظيم.

وكان دائم الصلة به، ويثق كثيرا في الترابي وأفكاره وتجاربه، وبخاصة عندما حدث الخلاف بين الترابي والبشير. وجدت عند الشيخ تفاصيل الخلاف، وقد ذهب بنفسه محاولا التوسط بينهما لإنهاء الخلاف، وعندما عاد سألته فأجاب مازحا: فشلنا في لمّ شملهما والحمد لله. وقد كان الترابي بعد الخلاف بقليل حرا طليقا، لكنه فيما بعد تم القبض عليه، وإيداعه في السجن.

دعوة القرضاوي إلى السودان وشرطه للزيارة

وعندما حدثت ثورات الربيع العربي، جاءت دعوة للشيخ القرضاوي إلى السودان لمؤتمر كبير، وطلب الشيخ مني مرافقته مع بعض إخواننا في مكتبه في هذه الرحلة، التي كان مقررا لها أن تكون في شهر مارس/آذار سنة 2011م، وبالفعل تم ترتيب التأشيرات لذهابنا للسودان عن طريق السفارة السودانية في الدوحة، وكنا في انتظار حجز تذاكر السفر، لكن الشيخ كلم الدولة السودانية ممثلة في نائب الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ليتصل بالبشير، ويخبره بطلب للشيخ.

كان طلب الشيخ أنه لن يستطيع دخول السودان والشيخ الترابي في السجن، فإنه يعز عليه وهو صديق له، وبعد ثورات ملأت العالم العربي الآن، أن يدخل زائرا للسودان في مؤتمر كبير كهذا وهو في السجن. وقد تم ترتيب كلمات الضيوف في الجلسة الافتتاحية للقرضاوي، وأعدوا برنامجا يتناسب مع زيارة عالم بحجمه للسودان، وكان ذلك طلب الشيخ الوحيد: أنه لن يدخل السودان والترابي في محبسه.

اشتراط القرضاوي العفو عن الترابي

وافقت الرئاسة السودانية على طلب القرضاوي، وأنه قبل وصوله للسودان سيكون الترابي حرا طليقا، وقبل سفرنا بيوم للسودان، فوجئ الشيخ بأن الرئاسة السودانية قد غيرت رأيها، بدعوى أن هناك مستجدات حدثت، تمنع من خروج الترابي من السجن قبل قدوم القرضاوي إلى السودان.

غضب الشيخ بشدة، وهدد بإلغاء السفر والرحلة، وعدم القدوم، إن لم يخرج الترابي قبل وصوله، فاتصل بي مسؤول سوداني كان له صلة بالدعوة والمؤتمر، لأخبر الشيخ وأقنعه بأن المسؤولين في السودان عرضوا عرضا آخر غير ما اتفقوا عليه معه، عرضوا أن يصل الشيخ للسودان ثم يقدم مبادرة للعفو عن الترابي، ويستجيب البشير لذلك، ويخرج الترابي وذلك عند وجود القرضاوي في السودان، وأخبرني المسؤول الوسيط: أن عقلية العسكر في الحكم تتصلب في مثل هذه المسائل، وتراها مرفوضة.

قلت له: لكنهم وعدوا الشيخ بذلك، وأن ذلك سينفذ قبل وصوله إلى السودان، فلم يكن ذلك إملاء أو جبرا من الشيخ لهم، بل طلب، ورهن مجيئه بهذا الطلب، فوافقوا، ثم بعد ذلك تراجعوا بشكل غير مبرر للشيخ، لا أعتقد أنه سيقبل. كلمت الشيخ فرفض هذا العرض، وقال: قدومي للسودان مرهون بخروج الترابي قبل سفري، لن أدخل السودان والشيخ في محبسه، وأصر رئيس السودان آنذاك البشير، وأصر كذلك الشيخ على موقفه، وألغيت الرحلة.

آخر زيارة من الترابي للقرضاوي في قطر

بعد ذلك بأسابيع قليلة، تم الإفراج عن الترابي، وسمحوا له بالخروج من السودان في زيارات، فجاء في زيارة لقطر، كي يرى الشيخ ويسلم عليه، وزاره في بيته، ودار حوار طويل، وحضرت اللقاء مع الشيخ في بيته، وتحدث الترابي طويلا، حتى إنه لاحظ أن الحضور يصمتون وهو المتكلم فقط، حتى ضحك ضحكته المعروفة، وقال: معذرة، المسجون حين يخرج، وخاصة من كان مسجونا انفراديا مثلي، فإنه يريد أن يعوض سنوات السجن والصمت، فيتكلم كثيرا، لأنه كان محروما من نعمة الكلام، فلا يرى إلا السجان، ولا يتحدث إلا معه في أضيق الحدود، وعندما يخرج يكون كالطفل الذي بدأ يتعلم الكلام، فهو يريد أن يتكلم في كل شيء، ليشبع شهوة الكلام عنده.

تعليق الترابي على ترشح أبي الفتوح وفصله

ثم دار الحديث عن مصر، والإخوان المسلمين في مصر، فإذ به يقول كلاما أضحك الشيخ وأضحكني جدا، إذ دار الحديث عن الدكتور عبد المنعم أبي الفتوح، وقصة ترشحه للرئاسة آنذاك، وفصله من الإخوان المسلمين، إذ لم تكن جماعة الإخوان قد غيرت موقفها في هذا الوقت من الترشح، فلا تزال على الرفض، لذا فُصل أبو الفتوح، وأُعلن قرار فصله.

قال الترابي: إنها حركة ذكية وخبيثة من الإخوان، تدل على دهاء شديد. قال له الشيخ: أي حركة؟! قال: أن يعلنوا بدهاء فصل أبي الفتوح، بينما هو تخطيط منهم، فيما بينهم، ليترشح، وينجح، ولا يحسب ذلك عليهم، كي يمر ترشحه على العسكر والأمريكان وغيرهم، فقال له الشيخ: لا ليست حركة، ولا دهاء، إنه قرار حقيقي بفصله.

ثم تدخلت بالحديث، وقلت له يا مولانا: الدكتور الترابي من كثرة التخطيط والدهاء الذي عمله في حياته، ظن أن إخوانه السابقين في الجماعة قد نالوا جرعة من هذا الدهاء، وأنهم صاروا يمتلكون عقلية داهية لا داعية مثلما يملك. ومضى الترابي عائدا إلى السودان، ولم يتم اللقاء بينهما فيما بعد، حيث توفي الترابي بعد ذلك بسنوات قليلة، ونعاه القرضاوي نعيا مر فيه على بعض مراحل الصداقة بينهما.

درس في السياسة

كان موقف القرضاوي من عدم دخول السودان وصديقه في السجن، موقفا مبدئيا وأخلاقيا، لا يملك الإنسان إلا احترامه، وقد خشي أن توظف زيارته ويذهب ولا يفوا بوعدهم، وكان العسكر في السودان وإن كانوا إسلاميين، قد أصروا على موقفهم معتبرين أن الطلب ولو من قامة علمية من أكبر رمز إسلامي كالقرضاوي، تعد إملاء أو اشتراطا عليهم، رغم قبولهم في بادئ الأمر، لكن يبدو أن هناك جهة ما تدخلت، وغالب الظن أن تكون من بطانة الحكم من الجهات الأمنية وغيرها، ليدل الموقف كذلك على أن السياسة عند الحديث عنها شيء، وعند التعامل الحقيق والواقعي شيء آخر، وهي دروس من الحياة نتعلمها من السير في دروبها أكثر ما نتعلمها من الكتب والمحاضرات.

المصدر : الجزيرة مباشر