اتحاد العلماء ومحطات في تاريخه ومرحلة التأسيس

الشيخ يوسف القرضاوي

ذكرت في مقالي السابق كيف تكونت فكرة تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حتى تجمع لدى الشيخ القرضاوي رحمه الله، عدد هائل من استمارات علماء قبلوا أن يكونوا أعضاء مؤسسين في هذا الكيان المزمع إنشاؤه، ولم يكن قد تم اختيار اسم له آنذاك، وبقي أن تجتمع لجنة تحضيرية للجمعية التأسيسية للاتحاد، وقد دعا القرضاوي لذلك بعض العلماء للحضور في بيته في قطر.

تنبيهات حول شهادتي

وقبل أن أكمل ما لديّ من ذكريات تتعلق بالتأسيس، أحب أن أنوه لثلاث نقاط:

أولا: أني أذكر ما رأيته وشهدته بنفسي، وقد يكون هناك أشخاص أو أدوار صغرت أم كبرت، لم أرها، ولم يرها من عاصروا معي هذا التكوين، وعدم ذكري لها ليس إهمالا مني ولا تجاهلا، ولكني أشهد بما رأيت، وما علمت، أو ما بلغني من الشيخ رحمه الله عن دور، أو ممن كانوا في إدارة الأمر آنذاك، كما أن الحدث مر عليه عشرون عاما، وربما تغيب عن الذاكرة تفاصيل صغيرة، وعند تذكري لها سأستدرك ذلك بكتابته فيما بعد إن شاء الله.

ثانيا: أني أقدم معظم ما أكتب عن الاتحاد مصدرا اسم شيخنا القرضاوي في معظمه، وليس ذلك تغييبا لآخرين لهم فضل وجهد، ولكن ذلك من باب التغليب، ومن باب ذكر الشخص الذي كان العمود الفقري للعمل، ووفاء له كذلك. وقد يلاحظ القارئ غياب ذكر أشخاص تولوا مهام ومناصب كبرى فيما بعد في الاتحاد، لا يجد أسماءهم مذكورة في بعض هذه الأحداث، وهذا لأن التحضير للتأسيس لا يتطلب عددا كبيرا من الناس، بل يتطلب من سيقوم بالمهام وتنفيذها، ومن يتمكن من الحضور، ولم أهمل ذكر أحد أو دوره قدر استطاعتي.

ثالثا: هناك أدوار لا أستطيع الحديث عنها، لأن ذكر أسماء أصحابها يضر بهم، وما قاموا به قد اطلع عليه خالقهم سبحانه وتعالى، وهو يكافئهم خير ما يكافئ به عباده الصالحين، وليس لديّ مانع شخصي من ذكر الأدوار والمواقف، لكن الضرر يتعلق بالأشخاص وذويهم، وليس من المروءة والخلق إلحاق الضرر بأصحاب الفضل والعطاء.

اللقاء لاختيار الأعضاء والحضور

اكتملت معظم التفاصيل المهمة والمطلوبة لإعلان تأسيس الاتحاد، وبقي العمل على التنفيذ، فطلب شيخنا القرضاوي من أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا الحضور من القاهرة، ومن شيخنا الشيخ حسين حلاوة الحضور من دبلن، وقد كان في الدوحة وقتها الشيخان الجليلان: د. أحمد العسال، ود. حسن الشافعي، لمتابعة أمور تتعلق بالجامعة الإسلامية في باكستان، فاغتنم الفرصة ودعاهما، ودعا شيخنا الدكتور عبد العظيم الديب، وشيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، واجتمعنا في منزل القرضاوي في الدوحة، في منزله القديم في منطقة الدفنة.

وكان قد تم الاستقرار على تسمية الاتحاد “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وقد كتب قانونه العوا، وعمل على تسجيله في دبلن حسين حلاوة، وكان لا بد من النظر في استمارات الأعضاء، لنرى من سيعتمد عضوا ويدعى للحضور، وقد تم الاتفاق على أن يعلن في لندن، بعد اليأس من قبول أي عاصمة عربية أو إسلامية أن يعلن منها، وأن يكون ذلك في شهر يوليو/تموز سنة 2004م.

لم تكن هناك ميزانية تكفي لحضور كل أصحاب الاستمارات فالسفر إلى لندن، وحجز الفنادق لذلك مكلف جدا، فتم الاتفاق على أن يدعى على حساب الاتحاد من لا يستطيع أن يحضر على نفقته الخاصة، وبحكم معرفتنا بمعظم الأعضاء، استطعنا أن نقدر من يمكنه السفر على حسابه الخاص، وكان دورنا في حجز غرفة في الفندق الذي سيقام فيه الإعلان، أو في فندق قريب، وندبر لهم أمر وسيلة التنقل التي تقلهم إلى مكان الانعقاد.

وهناك حالات كان لا بد من حضورها، لكنها لا تستطيع الحضور، لارتفاع التكلفة عليها، فكنا نفكر في متبرع تربطه علاقة بالشخص من بلده، أو من كيانه العلمي الذي ينتمي إليه، ليتحمل التكلفة، وقد وفقنا الله لذلك في عدد من الحالات، وبقي أمر النظر في الاستمارات من حيث العضوية والحضور.

الاعتذار عن دعوة عصام العريان

كان المشايخ يجلسون في بيت الشيخ على الأنتريه، وكنت والشيخ حسين حلاوة نفترش الأرض، نخرج استمارات الأعضاء استمارة استمارة، ليبدي الجميع رأيه في الشخص، وكل الاستمارات اعتمدت، عدا استمارتي شخصين فقط، الأول: الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق، والثاني: الدكتور عصام العريان رحمه الله.

وكان رفض الاستمارتين باقتراح من أحد الأعضاء الحاضرين، وحين أبدى الأسباب المتعلقة بهما، اقتنع الحضور، أما العريان، فكان لارتباطه التنظيمي بجماعة الإخوان، واسمه اللامع في ذلك، وفي حضوره وعضويته ما يضر بالاتحاد وهو كيان وليد آنذاك، ولذا ليس من المصلحة أن نضمه أو ندعوه في الافتتاح، وهو سيقدر ذلك، وقد أبلغت بعد ذلك العريان، وأبدى لي عتابه على الفعل، لكني أوضحت له الأسباب، وأنه يمكن الآن اعتماده عضوا، وتفهم الأمر وتقبله رحمه الله.

رفض عضوية علي جمعة

أما علي جمعة، فلم نكن في أول الأمر نفهم سر الرفض، وقد انضم إلى الرأي الرافض لجمعة الشيخ العسال، وتحدث عن ارتباطاته الأمنية التي عليها علامات استفهام مريبة لديه ولدى آخرين، ولكن أحد الأعضاء كان اعتراضه على أمور أخرى، أهمها: التعالم، وطلبنا التفصيل، ولم يكن يريد التحدث، فذكر موقفا واحدا، فحكى أنه ذهب مع عالم آخر، كان قد أخبره عن شيخ يلقي دروسا في أصول الفقه وتمنى أن يحضر معه، فذهبا وجلسا خلف عمود، وبعد شرح علي جمعة مدة من الوقت، قال أحدهما لصديقه: شيخك هذا جاهل متعالم، قال له: كيف؟! قال: سأختبره معك وترى بنفسك، فكتب سؤالا عن كتاب في أصول الفقه، اخترع عنوان الكتاب واسم المؤلف، أي: سأل عن كتاب وعالم لا وجود لهما.

فلما وصل السؤال إلى جمعة، تفذلك بطريقته المعهودة، قائلا: أيوه يا سيدي، بتختبرني، طيب هاجاوبك يا فذلوك، الكتاب ده مخطوط ولم ينشر، بس أنا شفت منه طبعة حجرية في الهند، ويتحدث عن كذا، والمؤلف قصته كذا، فاخترع موضوعا ومؤلفا من لا شيء، حتى يبرهن على أنه لا تخفى عليه خافية في العلم، فقال العالم صاحب السؤال لصديقه: ما رأيك؟ فقال صاحبه: رأيي، هذا جهل وادعاء، ثم قاما وانصرفا. وقد كان نفس الانطباع عند القرضاوي عن علي جمعة.

وهذا الحديث نقلته إلى الاتحاد عندما أصدر منذ عامين قرارا بفصل علي جمعة من عضوية الاتحاد، وقد أخبرتهم أنه لم يكن عضوا بالأساس، لكنهم أصروا للأسف، وسبب اللبس أنهم قالوا: له استمارة عضوية عندنا، وهذا معناه أنه طلب العضوية وقبلت. فقلت لهم: السبب لا يعرفه أحد سوى حسين حلاوة والعبد الفقير، واللجنة التي كانت حاضرة، فقد كنت أخاف من ضياع الأوراق، لذا كنت أصور كل استمارة ثلاث نسخ، فلما مزقت النسخة الأصلية التي كانت معنا في منزل القرضاوي، بقيت نسختان مصورتان، ولما أعلن الاتحاد سلمت النسختين وفيهما استمارة علي جمعة المصورة، ومن هنا حدث اللبس لديكم، وأصروا على موقفهم، ولم يسمعوا من كانوا في التأسيس، وقد كتبت وقتها ردا للتوضيح، ولكن البعض نصحني بعدم النشر حتى لا نشوش على الاتحاد.

عمارة والبشري والديب والشاوي يعتذرون عن عدم الحضور

كل من دعي من العلماء الذين ملؤوا استمارة عضوية الاتحاد، قبلوا من حيث المبدأ حضور الجمعية في لندن، عدا ثلاثة من العلماء، اعتذروا عن عدم الحضور، وقد كان اعتذارهم لسبب مبدئي لديهم، فهم مرحبون جدا بفكرة الاتحاد، ومتشجعون لذلك، وقد ملؤوا استمارة عضوية بالفعل، ليكونوا أعضاء مؤسسين، ولكنهم اعتذروا عن عدم الحضور، بحجة أن الاتحاد سيعلن في بلد أوروبي، ولا يحبون لاتحاد علمائي أن لا يعلن من بلد عربي أو إسلامي، تلك كانت حجة العلماء الثلاثة وهم: د. محمد عمارة، والمستشار طارق البشري، والدكتور عبد العظيم الديب، رحمهم الله جميعا.

واعتذر الدكتور توفيق الشاوي عن عدم الحضور لاعتلال صحته، وقد أبدى سعادته بإعلان الكيان الذي كان يحلم به كثيرا، ولذا فقد أراد ألا يفوته الحضور ولو بالنيابة، فأناب عنه أحد الإخوة الأفاضل ممن عملوا معه في مشاريع علمية ودعوية، وبالفعل حضر الأخ متكفلا بتكاليف الرحلة على حسابه الخاص.

أحداث ساخنة في لندن

وتمت دعوة بعض المسؤولين للحضور، وتحديد موعد الإعلان بتاريخ 12 يوليو سنة 2004م، في لندن، ولم يكن لقاء هادئا كما تصورنا، بل كان مملوءا بالأحداث المهمة والجديرة بالتسجيل والتوثيق، شهدت بجانب إعلان الاتحاد، مظاهرات نظمت في لندن نظمها المثليون جنسيا ضد القرضاوي، وضغوطا من اللوبي الصهيوني على رئيس الوزراء في مجلس العموم البريطاني بسبب الزيارة، وموقفا مشرفا من عمدة لندن آنذاك مع القرضاوي، أذكر تفاصيله في المقال القادم إن شاء الله.

المصدر : الجزيرة مباشر