هل آن الأوان لإغلاق ملف الإسلام السياسي؟

فكرة شمولية الإسلام مرتبطة بالعلاقات الإسلامية الحديثة (رويترز)

نشأت الحركة الإسلامية المعاصرة في البلاد العربية ردًّا على ضعف الخلافة العثمانية في محاولة للحفاظ على فكرة الاتحاد وحكم الشريعة الإسلامية بعد انفراط عقد الوحدة الإسلامية المتين، وجال مؤسسها جمال الدين الأفغاني بين الدول الإسلامية باحثا عن وسيلة لمقاومة الاستعمار والتشرذم العربي الإسلامي.

وطرح فكرة الجامعة الإسلامية وسيلةً للمّ شمل المسلمين في مؤسسة قد تكون بديلا جيدا لغياب دولة الخلافة حتى لا تضيع فكرة الكيان الواحد عن أبناء المسلمين، ورغم عجزه عن تنفيذ الفكرة، فإنه استطاع ترك بذرة يمكن البناء عليها ليلتقطها تلميذه محمد عبده وقد اعتمد مبدأ الإصلاح السياسي للوصول إلى الحكم الإسلامي، ثم محمد رشيد رضا الذي أنشأ صحيفة المنار معبرة عن فكرة التجديد الديني والخروج به من زوايا المساجد ليكمل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين رسالته وينتقل بها من النظرية إلى التطبيق الحركي مروّجا لفكرة شمول الإسلام لكل مناحي الحياة ووجوب تنظيمه لها وحكمه فيها.

عرض البنا رحمه الله فكرته في بلد المنشأ مصر لينتقل منها إلى دول عربية عديدة، ولم يكتف بعرض الفكرة وإنما قام بتحويلها إلى واقع عملي حين شارك في عمليات تحرير البلاد من الاستعمار الإنجليزي ثم في حرب تحرير فلسطين.

تعرضت الحركة لضربات شديدة وملاحقات كبيرة خاصة بعد مقتل مؤسسها واضطرار معظم كوادرها إلى الهجرة والهروب من جحيم الأنظمة المتتالية حتى استعان بها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في مواجهة المد الشيوعي بالجامعات المصرية وفي أوساط المثقفين لتثبت الجماعة قدرتها الدعوية على التصدي لذلك المد بنجاح عجزت عنه أجهزة الدولة الثقافية.

ثم تطورت العلاقة مع الأنظمة لتسيطر على النقابات المهنية والاتحادات الطلابية ونسبة لا بأس بها من مقاعد النواب رغم الفساد الذي تجذر في الحياة السياسية في بداية القرن الحالي، ثم لتشارك الحركة في ثورات الربيع العربي وتكون في مقدمتها، وتنتهي بعد فترة ظهور استثنائية إلى حالة من التشرذم والسكون والصمت والهبوط شبه الاضطراري للفكرة بجملتها، فتفشل الحركة سياسيا وتتجمد دعويا وتهب ريح الخلاف بين صفوفها وتعجز عن إيجاد حل لمعتقليها بالداخل ومطارديها في الخارج.

فشل عابر أم موت سريري؟

لست أقر بمصطلح الإسلام السياسي معبرا عن الحركة الإسلامية الشمولية التي حافظت على “الدين” من محاولات التغيير المصاحب لحركة الاستشراق الغربي، خاصة أن أول من استخدم المصطلح كان المستشرق اليهودي “مارتن كرامر” معبرا عن تسييس الدين الإسلام، ورفض فكرة تطبيق قوانين الشريعة التي تتحكم في حياة أهله، أو صلاحيته لأن يكون نظام حكم يوجه سياسات الدول.

ففكرة شمولية الإسلام ليست وليدة الحركات الإسلامية بقدر ما هي عقيدة لدى المسلمين، وبالنظر إلى النتائج الكارثية التي وصلت إليها الحركة الإسلامية المعاصرة أو الإسلام السياسي كما يطلق عليه مجازا من فشل لمشروعها الشمولي على أرض الواقع في الشارع العربي والإسلامي، يحق لنا أن نطرح عدة تساؤلات حول تلك النتائج:

  • هل هي نتيجة الالتزام بالفكرة التي قامت عليها؟ أم أنها نتيجة الحياد عنها وتزييفها أمام الشباب وتقديمها مبتورة لا تعبر عن الإسلام الكلي إلا من خلال فهم البعض دون غيره؟
  • ألم تتأثر الحركة الإسلامية بالعقلية الشمولية ذات الرأي الواحد فانتهت قيم الشورى والاعتراف بالآخر؟
  • هل يقبل قادة الحركة النقد والاستجابة لطلبات القيام بالمراجعات الفكرية للأهداف والوسائل؟
  • -هل يمكن أن تتخلى الحركة عن فكرة المظلومية المجردة وأنها دليل “صحة الطريق” لا فشل الوسائل؟
  • لماذا هذا الفصام الكبير والبون الشاسع بين الشباب والقيادات واستبعاد فئة الشباب حتى توقف التواصل تماما لمدة عشر سنوات تكلس فيها الفكر والعقل والعمل؟
  • هل أفلس قادة الحركة والمسؤولون عنها وعجزوا عن تقديم الجديد ليس لإنقاذ الأمة من محنتها القائمة، وإنما إنقاذ الحركة ذاتها في مواطن نشأتها؟
  • هل يمكن أن نقول إن الفكرة انتهت بعد أن أدت ما عليها ولم تعد تملك أي مقومات للاستمرار بعد أن دبّ الخلاف بداخلها وتسربت منها جماعات ابتعدت بالفكرة عن مسارها ومضمونها ومفاهيمها بل وأهدافها التي أنشئت من أجلها في البداية؟

إننا إذا توصلنا إلى جواب صادق لتلك التساؤلات وغيرها فسنتوصل إلى أن الفشل الحادث ليس وليد يوم أو عشر سنوات، وإنما هو نتاج عقول توقفت عن التطور وحاربت الإبداع سنوات طويلة، وأنه ليس فشلا عابرا، وإنما هو نهاية حقبة بكل ما حملته من استبداد على المستوى العام والخاص، وبداية جيل جديد سوف يتجاوز كافة تلك الأفكار ثائرا عليها مبدلا لها.

بين الإقصاء والانبهار

لقد وقعت الحركة الإسلامية في الشرق الأوسط لعقليتين تسببت كل منهما في انفضاض الجماهير من حولها، بل ووضعت حاجزا من الضبابية حول قدرتها على تغيير الواقع المر بعد تعثر موجة الربيع العربي الأولى نحو مصلحة الشعوب وحرياتها وحقوقها فضلا عن رفاهيتها، بعد أن وضعت فيها آمالا كبرى في كافة الاستحقاقات الانتخابية في اختيارات حرة ونزيهة بصورة لم تعرفها البلاد من قبل، وكلا العقليتين كانت سببا مباشرا في قصم ظهر فكرة التغيير عبرها.

أولا: العقلية الإقصائية: فهي لا تريد الاستماع إلى الآخر أو الاعتراف بوجوده بل تدخله في دوائر الاتهام بالعمالة والخيانة أو عدم الفهم لمجرد إبداء رأي مخالف أو توجيه انتقاد للأداء الباهت والفاشل في الفترة الأخيرة تجاه القضايا الكبرى والمحورية للأمة وهي قضية تحريرها من التبعية ووحدة كلمتها وصفها حتى لو كان هذا الآخر منتميا لها.

هذا بالطبع علاوة على استبعاد الشباب والمرأة عن مواطن اتخاذ القرار بحجة عدم النضج أو أن الظرف لا يسمح، فكانت النتائج تفككا داخليا وفصاما كبيرا بين شباب الحركة وشيوخها، وبين الشباب والفكرة التي يمثلها الكبار، علاوة على انفضاض الجماهير عنها وإعراضها، بينما تتلقى الحركة ضربات أمنية وجودية في وقت كانت مؤهلة فيه للسقوط نظرا للضعف والخلاف والانقسام الداخلي.

ثانيا: العقلية المنفتحة دون قيد أو شروط: وقد وقع فيها جانب ليس بهين من الحركة الإسلامية باسم الاستيعاب والانفتاح والحداثة وقبول الآخر وإثبات المرونة وتجنب وقوع البلاد فيما وقع فيه غيرها من قبل حتى أصبحت الحركة أشبه بالعلمانية ولم تعد هناك فروق جوهرية بينهما ليصير التنازل عن الثوابت مرادفا لها حتى وجدنا تصويتا عقابيا من شعب بأكمله ليسقط تلك الحركة ويأتي بدكتاتور آخر يضع قائدها خلف الأسوار دون أن يتحرك الشعب في مظاهرة واحدة لإنقاذه.

الإبداع والتجديد انطلاقا من الثوابت

وبعد الغياب الحركي الإسلامي عن الشارع في ذكرى الربيع العربي هل نستطيع أن نقر بالسقوط الأبدي للفكرة الإسلامية؟

الجواب يجزم به تاريخ هذه الأمة الذي يقول إنها أمة لا تكاد تتعثر حتى تنهض من جديد، وإنها أمة لم توجد لتموت، وإنما تحمل مقومات التجدد والانطلاق في كل مرة يحسب المتابع أنها قد انتهت فيها. إن أوضاع الأمة قد تغيرت اليوم، خاصة بعدما حدث في غزة وانتقال المقاومة من مربع المدافع وخروجها من ضيق المظلومية والخسارة المستدامة.

لقد كسرت حماس قيد تلك الهزائم، وأضافت مقومات جديدة لاكتساب احترام العالم وفرض إرادتها حتى صار الحديث عن دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية مطروحا بقوة في أي مفاوضات لإيقاف تلك المجازر، وبالرغم من عدد الشهداء فإن المقابل كان إثبات هوية وحضارة وصوت قادر على التحدث بندّية بعدما كان الحديث عن إبادة وتهجير وصفقة قرن ما زالت مفتوحة. لقد كشفت المقاومة الكثيرين ممن ادعوا بها وصلا، كما كشفت عجز المدعين عن إنقاذ ما بقي من أبنائهم.

ولا يعني ذلك أن الحركة الإسلامية لم تترك آثارا إيجابية على الوعي الجمعي للأمة، بل إنها بالفعل تركت تجارب قابلة للتعلم منها بجيل تربى داخل المحنة، جيل نشاهد منه المعجزات على شاشات الجزيرة وإعلامها في غزة والضفة والقدس المحتلة.

إن الفكرة ما زالت قائمة ولن تسقط بسقوط جماعة أو فصيل، فالكل يذهب والأفكار باقية يحملها القادرون عليها، تلك العقول الانتقائية المبدعة التي تملك أدوات قوتها المجملة والتي لخصها أبو عبيدة في جملة واحدة “إعداد الإنسان”. ولقد بذل الأحرار الثمن كاملا في ذلك الإعداد.

إن التغيير آت لا محالة، فتلك سنة الله في كونه، لكنه آت على يد من يستحق، يد من يساير السنن التي لا تحابي أحدا.

المصدر : الجزيرة مباشر