أحجار على رقعة الشطرنج

رقعة الشطرنج (منصات التواصل)

(1) كل لعبة لها أهداف

الشطرنج لعبة التفكير والتخطيط والصبر والمكر والتصيد، لعبة يتحرك فيها الخصمان حركات محسوبة بدقة وبعد طول تفكير وحساب للاحتمالات كافة، أثناء اللعب قد يضحي أحد اللاعبين بقطعة مهمة من جيشه من أجل غاية أكبر من هذه القطعة التي قدمها قربانًا للإيقاع بالخصم.

إيران من أكفأ اللاعبين في منطقة الشرق الأوسط، فهي تعرف كيف تستفيد من قطعها الـ 16 لتصنع بهم استراتيجية طويلة الأجل تسمح لها باللعب مع خصومها ومنافسيها بالمناورة والتأني والصبر والتضحية ببعض من جنودها لتحقيق الاستراتيجية الكبرى.

الثورة الإيرانية عام 1979 وضعت عددًا من الأهداف، بعضها تم الإعلان عنه والبعض خفي وفق قاعدة التقية.

استفادت إيران من فقدان الثقة بين الدول العربية الناتج عن الغزو العراقي للكويت ووجدت أرضًا خصبة في دول عربية روتها بالمساندة والدعم المادي والعسكري، ولم تضن عليها بالخبرة.

وكان سقوط نظام صدام حسين على يد الولايات المتحدة الأمريكية نقلة كبيرة على رقعة الشطرنج لصالح إيران، لم يعد هناك عقبات ولا حراس على البوابة الشرقية للوطن العربي، وأصبح متاحًا الوصول إلى البحر المتوسط عن طريق سوريا والبحر الأحمر عن طريق اليمن وتأمين حدودها الغربية مع إسرائيل بطول لبنان وعرضها.

أصبح لإيران حلفاء في أربع دول عربية تدين لها بالولاء وتندرج تحت مسمى محور المقاومة.

إيران وضعت هدفًا واضحًا بعد حربها مع العراق، التي استمرت 8 سنوات دون انتصار حاسم من أحد الجانبين، أن تنقل حروبها خارج حدودها لحماية أمنها القومي، وكان قاسم سليماني مهندس هذه الاستراتيجية التي نجح فيها إلى حد كبير رغم كل ما تعرضت له إيران من عقوبات اقتصادية من جانب أمريكا والغرب.

(2) احترام قواعد اللعبة

يتعجب البعض من العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، حتى أن البعض يعتقد أن إيران بينها وبين أمريكا تفاهمات سرية وأنهما أعداء في العلن حلفاء في السر.

ولكن اعتقادي الراسخ أنهما خصمان، ولكن خصومتهما تتبع قواعد متفق عليها ويلتزم كلاهما بها، تمامًا مثل الحال في لعبة الشطرنج، يتنافسان في حدود قواعد اللعبة، ولعل ذلك يبرر البيانات الصادرة عن كلا البلدين التي تؤكد أن كليهما لا يريد الدخول في حرب مباشرة مع الآخر، ويكتفيان بتحريك جنودهما بحساب، فكل منهما لا يريد أن يصل لحركة “كش ملك” لأنه لا يملك أدواتها، أو لأنه يخشى تبعاتها.

سابقًا قال ونستون تشرشل: “إن نفوذ الدول يُقاس بمدى نيران مدافعها”، العبارة ما زالت صالحة للاستعمال مع تغيير يسير وهو إن نفوذ الدول يقاس بمدى نيران مدافعها أو مدافع من ينوب عنها بالوكالة، صحيح أن إيران لا يمكن أن تضع نفسها في الميزان أمام قوة أمريكا العسكرية صاحبة أقوى جيوش العالم، ولكنها نجحت في التقليل من هيبتها عن طريق الهجوم المتكرر على قواتها في عدد من الدول العربية علي يد الميليشيات المدعومة منها، لا توجد دولة في العالم حتى الآن تستطيع الانتصار على الجيش الأمريكي لو دخلت معه في حرب مباشرة، لكن الحروب المتفرقة والعديدة التي تتورط فيها القوات الأمريكية تستنزفها وتشتت تركيزها، وهي بمثابة ندوب تترك أثرًا في سطح القوة العسكرية الأمريكية.

(3) العرب لاعب أساس

معظم الدول العربية الفاعلة وصاحبة النفوذ والتأثير في محيطها الإقليمي اكتفت بمتابعة ما يجري في غزة باهتمام وترقب، واتسمت تعليقاتها بالحذر وإدانة الممارسات الإسرائيلية في غزة، وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار، وتساءل البعض: لماذا لم تنخرط هذه الدول فيما هو أكثر؟

في اعتقادي أنها لا تعد نفسها جزءًا من هذا الصراع، لأسباب عدة أهمها لم يستشرها أحد فيه ولم يناقشها أحد في توابعه، والسبب الآخر لأنها تدرك أن تأثيرها في أطراف الصراع لن يكون كبيرًا، وهي لذلك ترفض أن يكون مقتصرًا على دفع “فواتير” نتائج هذه الحرب والصراع بين (حماس) وجيش الاحتلال الصهيوني.

ولقد عبّر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، خلال مقابلة تلفزيونية بقوله: “تقول الدول العربية لن نتدخل في أمور، منها على سبيل المثال، إعادة إعمار غزة إذا كان سيسوى بالأرض مجددًا خلال عام أو خمسة أعوام ثم يُطلب منا إعادة إعماره من جديد”، الدول العربية التي يمكن أن تسهم في هذا الإعمار تريد أن تتأكد أنها المرة الأخيرة وأن المنطقة ستنعم بعدها بسلام حقيقي مستقر يتحقق بمنطق الأرض مقابل السلام الذي ترفضه دولة الاحتلال الآن.

هناك تغير ملحوظ في سياسة عدد من الدول الخليج، فلم تعد تنظر لعلاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية على أنها زواج كاثوليكي لا مفر منه، لكنها علاقة استراتيجية مبنية على تبادل المصالح وليس عطاء من طرف واحد كما كان الحال سابقًا، فهناك دول كبرى مثل الصين وروسيا تقدمان عروضًا بتحالفات استراتيجية بشروط أفضل بكثير من تلك التي تقدمها أمريكا لدول الخليج.

وأعتقد أنه آن الأوان لأن يكون للعرب استراتيجيتهم الخاصة وأن يتعلموا من التجارب المريرة التي مروا بها، أن لا يكونوا مجرد أحجار على رقعة الشطرنج، لكن لاعبين أساسين قادرين على المنافسة وإجبار العدو والصديق على الالتزام بقواعد اللعبة، وأن يدركوا أن عالم السياسة الدولية لعبة يتنافس فيها المتنافسون من أجل الفوز والتغلب على الخصم، ولا عيب في ذلك فلقد ذكره الله في كتابه الكريم {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهَمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}.

فمن الضرورة بمكان الانخراط في اللعبة على شرط تعلم أصولها وإتقانها والتحلي بالصبر والمثابرة والثقة بالنفس والمرونة، فعدم المشاركة في اللعبة والاكتفاء بالمشاهدة أفقد العرب الكثير من الفرص والمكانة.

 

المصدر : الجزيرة مباشر