أردوغان الفائز

 

تجربة فريدة لا مثيل على الإطلاق عاشتها تركيا، وتابعها العالم أجمع من كثب، منذ بدء التصويت في الانتخابات التركية في الرابع عشر من مايو /أيار الجاري، وحتى إعلان نتائج الجولة الأولى، وما تبع ذلك من جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، وما انتهى إليه المشهد.

إن الزخم الديمقراطي الذي عاشته تركيا طوال فترة الانتخابات، وتابعه العالم، هو نتاج فترة حكم الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية. ولئن كان هناك من فضل يمكن أن يُنسب إلى أحد في هذا المشهد الديمقراطي التركي، فإن الفضل لا شك للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية.

نموذج ديمقراطي تركي

يقف المرء منبهرا أمام النموذج الديمقراطي التركي، شعبا وحكومة ورئيسا.

لقد أكدت تجربة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، تميز النموذج الديمقراطي التركي، ومن عايش التجربة الانتخابية التركية، خاصة من العرب والشرق أوسطيين، يدرك ما نعنيه بهذا التميز. لقد عايشت تجربة الانتخابات التركية بنفسي، لحظة بلحظة، على أرض الواقع، وليس عبر الشاشات أو التقارير الصحفية والتحليلات النظرية.

ما حدث في تركيا خلال فترة الانتخابات، وفي أيام التصويت، مثل لحظات تاريخية فارقة، غير مسبوقة، في تاريخ الدولة التركية الحديث.

فقد شاهد العالم إقبالا غير مسبوق على التصويت، لم تشهده تركيا من قبل، تجاوزت نسبته جميع الاستحقاقات الانتخابية السابقة. وقد تمت الانتخابات بسلاسة منقطعة النظير، والتزام تام بالقواعد والقانون.

كان واضحا أن هناك تراكما للتجربة الانتخابية لدى الشعب التركي على مدى العقدين الماضيين، هو الذي صنع هذا الواقع المبهر. فقد كان المشهد الانتخابي التركي غير مسبوق في أي منظومة ديمقراطية، ولم يُرَ من قبل، سواء في أوربا أو أمريكا، ويكاد يفوق النموذج الغربي.

لقد أكد المشهد الانتخابي بوضوح تميز تركيا ونظام حكمها، وقدّمت تركيا إلى العالم نموذجا فريدا للديمقراطية يُحتذى به، ولدولة مسلمة تنوعت فيها الأعراق والطوائف والأفكار والطبقات.

ولئن كان هناك من فائز حقيقي في الانتخابات التركية، وبغض النظر عن النتائج، فهو أردوغان وحزبه -حتى لو افترضنا أنهما لم يحققا التقدم الذي أحرزاه في الانتخابات- ومن ورائهم الشعب التركي.

فهذه التجربة الديمقراطية، بشفافيتها ونزاهتها وزخمها، هي نتاج أكثر من عشرين عاما لحكم حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان.

اهتمام عالمي غير مسبوق

وقد سجلت الانتخابات التركية الأخيرة اهتماما عالميا غير مسبوق على جميع الأصعدة؛ سياسيا واقتصاديا وعسكريا وأيديولوجيا، نظرا لما يُنتظر أن يترتب على نتائجها من تأثيرات، ليس على مستوى الداخل التركي فحسب، ولكن على المستويين الإقليمي والدولي.

فعلى مدار فترة الانتخابات وحتى ظهور النتائج، خاصة في الجولة الأولى، حبس الجميع أنفاسهم، وكانت العواصم الغربية الأكثر ترقبا لما تفرزه صناديق الاقتراع.

فلم تحظ انتخابات باهتمام غربي كما حظيت به الانتخابات التركية، إذ كان الاهتمام غير مسبوق على مستوى النخب وصناع القرار، وعلى مستوى الصحافة والإعلام، وقد بدا الأمر وكأن الانتخابات التركية تجري في العواصم الغربية.

وكان واضحا حجم الاهتمامَ الغربي من خلال تصريحات النخب، والمنشور من مقالات وتقارير ودراسات، وحوارات وبرامج تلفزيونية، واستطلاعات رأي تم الترويج لها بقوة، عمدت جميعها إلى الميل لصالح المعارضة التركية.

وقد سجلت الانتخابات التركية سقوطا مهنيا للصحافة والإعلام الغربي، وأكدت -بما لا يدع مجالا للشك- ازدواجية المعايير الغربية، وسقوط فرضية موضوعية الإعلام الغربي، الذي تأكد أنه إعلام يعبّر عن مصالح وتوجهات مموليه، والنخب الغربية التي تريد دول العالم الأخرى خاضعة لهيمنتها، وتدور في فلكها، ويريدون تركيا تحديدا دون أردوغان، حتى تعود إلى الحظيرة الغربية.

فقبل الانتخابات التركية، شنت وسائل الإعلام الغربية حربا دعائية ضد الرئيس أردوغان. فالصحف مثل: “إيكونوميست، وواشنطن بوست، ودير شبيغل، ولو بوينت، ولو بريس”، قامت بحملة ممنهجة ضد الرئيس أردوغان وحزبه، وكالت له تهما لا محل لها من الواقع، في سقوط مهني غير مسبوق، كما روجت بقوة أن كفة كمال كليجدار أوغلو، وتحالف الأمة المعارض هي الأكبر، وأن سقوط أردوغان وحزبه بات وشيكا لا محالة.

لكن صفعة قوية تلقتها وسائل الإعلام والدوائر السياسية الغربية، بعد نتائج الجولة الأولى للانتخابات التركية، والتقدم الواضح في الانتخابات البرلمانية لتحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية، على تحالف الأمة المعارض، والفارق الكبير في الأصوات للرئيس أردوغان عن منافسه كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية.

وقد أصابت نتائج الجولة الأولى المعارضة بحالة من الانقسام والإحباط، وأطاحت بسائر التوقعات واستطلاعات الرأي التي روجها الإعلام الغربي عن تراجع حظوظ حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان.

وبعد تصدره نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية خلافا لكل التوقعات، عادت الصحافة الغربية “بخفي حنين” لتسلّم بالواقع، وتشير إلى شعبية أردوغان وتزايد فرصه في حسم السباق خلال جولة الإعادة، واصفة إياه بأنه “رئيس لا يُقهر”، وهذا ما قالته تحديدا وكالة الصحافة الفرنسية.

صراع انتخابي متعدد الوجوه

على مدار أسابيع، لم يكن هناك صوت يعلو على صوت انتخابات مئوية تركيا، التي انتظر نتائجها الخارج قبل الداخل التركي.

وخلال هذا الاستحقاق، خاض حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان أشرس انتخابات في تاريخ تركيا الحديث، مُعوّلَين على إنجازات تحققت على مدار مسيرة بدأت قبل أكثر من عشرين عاما، غيرت تركيا داخليا وعلى الصعيد الدولي. فتركيا قبل تولّي حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان كانت وجها آخرَ قد لا يتصوره كثيرون ممن لم يعاصروا تلك الفترة.

ولم تكن الانتخابات التركية الأخيرة مجرد انتخابات عادية، بل كانت مواجهة شرسة بالأدوات الديمقراطية، عكست صراعا متعدد الوجوه؛ سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعقائديا وعسكريا، ولم تكن المواجهة فيها تقف عند حدود القوى المعارضة في الداخل التركي، ولكنها كانت مواجهة أيضا ضد الغرب الذي خاض المواجهة من بوابة المعارضة، وما زال يعيش سكرة ماضي تركيا قبل تولّي حزب العدالة والتنمية، ويسعى لإيقاف الصعود التركي الذي يقوده أردوغان، ويريد عودة تركيا إلى فلك الهيمنة الغربية.

خاتمة

لقد كان التصويت في الانتخابات التركية بشقيها البرلماني والرئاسي اختيارا بين الاستقرار، والحفاظ على المكاسب التي حققتها الدولة التركية، وما أحرزته من صعود وتطور وتقدم على أصعدة مختلفة، على مدار العقدين الماضيين، وبين العودة بتركيا إلى عقود مضت، والانكفاء والتقوقع، والدوران في فلك القوى الغربية المهيمنة.

وبغضّ النظر عن نتائج الانتخابات التركية، فإن التاريخ سيسجل أن أردوغان هو الفائز في هذه الانتخابات، فقد تمكن خلال قيادته حزب العدالة والتنمية من صناعة هذا المشهد الديمقراطي الذي أبهر العالم، واستطاع عبر مسيرة استمرت أكثر من عقدين أن يغيّر وجه تركيا، ويجهّز دولته وشعبه للانطلاق نحو قرن جديد للدولة التركية.

وعلى كل الأحوال، فليس الرئيس أردوغان الفائز وحده، ولكن الفائز الحقيقي هو الشعب التركي.

المصدر : الجزيرة مباشر