أين جلال الدين الحمامصي؟! صدمتي الأولى في كلية الإعلام!

جلال الحمامصي

 

قبل أن أشد رحالي إلى القاهرة للالتحاق بكلية الإعلام عام 1977، تعرفت بأحد خريجي الكلية، الذي حدثني عن أساتذتها، وبالتحديد عن جلال الدين الحمامصي، وأعطاني بعض محاضراته التي قرأتها بشغف، ومضيت أمنّي نفسي بلقاء هذا الأستاذ، والعمل معه في صحيفة “صوت الجامعة” التي تصدرها الكلية.

في اليوم الأول، سألت عن هذا الأستاذ طالبا في السنة الرابعة، فنظر إليّ شذرا كأنني ارتكبت جريمة وقال -لا فض فوه- “تم طرده من الكلية”، ساورتني نفسي الأمّارة بالسوء بأن أطبق بكلتا يديّ على رقبته، لكنني تحليت بالصبر، وتحملت الأذى، وتمنيت أن يكون ما قاله هذا الطالب غير صحيح، لكن كانت تلك حقيقة شكلت لي أول صدمة تعرضت لها في الكلية، ومما ضاعف من تأثير الصدمة تلك الكلمة التي استخدمها الزميل “تم طرده”، فكيف يتم “طرد” أستاذ يُعلّم طلابه الصحافة وفنون الكتابة وتغطية الأحداث والتعبير عن الرأي؟ وإذا كان الأستاذ يتم “طرده”، فماذا يمكن أن يحدث للطلاب وللصحفيين الذين علّمهم؟!

خاصم النوم عينيّ تلك الليلة، وسألت نفسي: هل أخطأت بدخولي هذه الكلية التي يتم طرد “الأستاذ” منها؟ ومن الذي يمتلك السلطة ليتخذ ذلك القرار الذي يشكل عارا؟ وماذا فعل الأستاذ ليتم “طرده”؟!

صدام مع الناصريين!

في الأيام التالية، شغلت نفسي بالتحقيق في الأمر، فعرفت أن طلاب التيار الناصري الذي كان يسيطر على الكلية تظاهروا ضده وطالبوا بطرده، فاستجاب لهم السادات، وأصدر القرار بفصل الأستاذ!!

وكان الناصريون فخورين بهذا الإنجاز الذي حققوه، وتساءل أحدهم مستنكرا: كيف يشكك في ذمة الزعيم عبد الناصر؟!

كنت أقف وحيدا في مواجهة تيار يتمتع بقوة كبيرة، وحاولت أن أبني حججي على أسس مهنية، فقلت: إن من حق الصحفي أن يطرح ما يشاء من أسئلة على المسؤولين، وأن يتلقى إجابات صحيحة ودقيقة عن أسئلته، فهو يمثل الشعب في مواجهة السلطة، وكل ما فعله الحمامصي أنه طرح سؤالا كان يجب أن تقوم السلطة بالرد عليه!!

واجهوني بعداء لم أتوقعه!!

لكن طلاب التيار الناصري تعاملوا معي بعداء لم أكن أتوقعه، فحتى ذلك الحين كنت أدافع عن عبد الناصر الذي كنت أرى أنه ضحية لمؤامرة دولية، وأنه ليس مسؤولا عن هزيمة 1967، وأن عبد الحكيم عامر هو الذي أمر بانسحاب الجيش، وهو سبب الهزيمة.. وكنت أقف مع القومية العربية.

لذلك لم أتوقع أن أدخل في معركة عنيفة معهم، فتمسكت بكل تقاليد العرب في الحوار، وحرصت على عدم استخدام أي كلمة يمكن أن تشكل إساءة لأحد، لكنهم لم يلتزموا بأدب المناقشة، فتساءلت مستنكرا: هل تريدون الاستمرار في استخدام أساليب شمس بدران وصلاح نصر؟!

أدى ذلك إلى زيادة تعاطفي مع الأستاذ جلال الدين الحمامصي، فكيف تمكن من إدارة “الحوار وراء الأسوار” مع هؤلاء الطلاب بالحكمة وباستخدام المهارات الصحفية؟! فقررت أن أتعلم فنون المناقشة وإثارة الأسئلة والاستماع بصبر للآراء المختلفة.

حاولت أن أقيم جسورا مع جميع الاتجاهات السياسية والفكرية، وأن أحترم حقوق الجميع في التعبير عن آرائهم، مع الالتزام بأخلاقيات الصحافة والإعلام، وأن أبحث عن الفرص للتعاون والمشاركة وتحقيق التوافق.

وجاءت تلك الفرصة لأتعاون مع التيار الناصري، ومع كل التيارات الأخرى في مقاومة التطبيع مع إسرائيل، ورفض اتفاقيات كامب ديفيد، وبنيت علاقات صداقة مع الكثير منهم، لكنني لم أستطع -حتى الآن- أن أسامح هذا التيار لأنه حرمني من الجلوس أمام جلال الدين الحمامصي في محاضراته، لأتعلم منه فنون العمل الصحفي.

وما زلت أرى أن طرد الحمامصي من كلية الإعلام يُشكل عارا لكل من أسهم فيه، وللسادات الذي اتخذ القرار الظالم الذي يُشكل إهانة للعلم والجامعة، وانتهاكا لحرية الصحافة، واعتداء على حقوق طلاب أهّلوا أنفسهم ليصبحوا صحفيين يقومون بوظيفتهم في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة.

لكنه أسهم في تشكيل شخصيتي!

لم أتمكن من لقاء الحمامصي على الرغم من أنني بذلت جهدي لذلك، لكنني قرأت كتبه، وحرصت على متابعة عموده “دخان في الهواء”، لذلك أعترف بفضله في تطوير تجربتي في عالم الصحافة، لكنه أيضا كان مسؤولا عما تعرضت له في حياتي من اضطهاد وظلم، فقد كنت مثله حريصا على حريتي واستقلالي، وعلى أن أعبّر عن رأيي بشجاعة، ولقد دفعت الثمن غاليا، ففقدت الكثير من الفرص في الصحافة والجامعات.

كان الحمامصي صحفيا متميزا يمتلك تجربة تاريخية كان يمكن استثمارها في تطوير الصحافة المصرية، وفي تأهيل جيل جديد من الصحفيين الذين يقومون بإدارة مناقشة حرة بين كل الاتجاهات السياسية والفكرية للتوصل إلى حلول جديدة ومبدعة للأزمة التي يمر بها الوطن، والتي تتزايد حدتها كلما تزايدت القيود على حرية الصحافة، وكلما تعاملت السلطة مع الصحافة بوصفها “وسيلة لتضليل الشعب وتزييف وعيه”.

لذلك كان “طرد” الحمامصي من كلية الإعلام جريمة، وكل من شارك فيها يتحمل الإثم والوزر والعار، فمستقبل الصحافة يرتبط بالحرية، وبالقدرة على طرح الأسئلة وإدارة المناقشة بين الاتجاهات السياسية، ورفض أساليب استئصال الاتجاهات السياسية ونفيها من وطن يحتاج إلى أفكار الجميع، وإلى مشروعات حضارية متعددة تتنافس على الفوز بثقة الشعب الذي يمكن أن يختار منها ما يبني به مستقبله.

لذلك نطرح السؤال: ماذا لو استمر الأستاذ الحمامصي يدير الحوار وراء أسوار كلية الإعلام، ويثير الأسئلة، ويقوم بدوره في تأهيل الطلاب لبناء صحافة حرة يمكن أن تزيد وعي الشعوب بحقوقها في الديمقراطية والكرامة الإنسانية؟ أعتقد أن الوطن كان يمكن أن يكون أفضل!

المصدر : الجزيرة مباشر