لماذا جاهرت واشنطن بدعمها للمعارضة التركية؟!

بايدن وأردوغان (فبراير 2022)

في تحدٍّ واضح للدولة التركية، ودون أدنى اعتبار للقيم السياسية والأعراف الدبلوماسية، ومع تجاهل تامّ لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كشفت الإدارة الأمريكية عن دعمها المطلق لجبهة المعارضة التركية التي تضم ستة أحزاب، بل نصبت نفسها شريكا فاعلا في تحديد مساراتها خلال المرحلة المقبلة، ورسم خارطة الطريق أمامها، ووضع البرامج الدعائية الكفيلة بجذب أصوات الناخبين لصالحها.

التحركات الأمريكية التي تأتي مع بدء العد التنازلي لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بدأت تنكشف على العلن منذ أزمة إعلان حزب الجيد برئاسة ميرال أكشنار انسحابه من ائتلاف المعارضة لرفضه ترشيح كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة لخوض الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس أردوغان.

فقد دعت السفارة الأمريكية في العاصمة أنقرة الطرفين إلى اجتماع ثلاثي في أحد الفنادق القريبة منها، حضره عدد من الدبلوماسيين العاملين بالسفارة، وأهم قيادات الحزبين المتنازعين، وهو الاجتماع الذي أسفر عن عودة أكشنار مرة أخرى إلى تحالف الطاولة السداسية، بل وموافقة حزبها على ترشيح كليتشدار أوغلو.

بأوامر أمريكية توسيع جبهة المعارضة التركية

وتداولت وسائل الإعلام المحلية معلومات تشير إلى أن دبلوماسيي السفارة الأمريكية قاموا أيضا بتنظيم اجتماع آخر في نفس المكان ضم كمال كليتشدار أوغلو وقيادات حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل الأكراد على الساحة السياسية التركية، وتم في هذا الاجتماع الاتفاق على أن يكون حزب الشعوب الديمقراطي أحد مكونات جبهة تحالف المعارضة خلال المرحلة الحساسة المقبلة، حتى إن ميرال أكشنار عقب عودتها إلى التحالف رجحت احتمال عقد لقاء ثنائي بين كليتشدار أوغلو وقيادات حزب الشعوب الديمقراطي خلال فترة وجيزة، للاتفاق على سبل دعمهم لانتخابه رئيسًا للجمهورية، والمكاسب التي سيجنونها مقابل ما سيقدمونه من دعم.

 

تحول موقف أكشنار 360 درجة

الغريب في الأمر أن ميرال أكشنار لطالما تعنّتت ضد التعاون بأي صورة من الصور مع حزب الشعوب الديمقراطي لما لذلك من تأثير سلبي في قاعدة حزبها الشعبية، وإمكانية تعرضه لخسارة كتلة تصويتية، وهو ما قد يعيق دخوله البرلمان جراء عقد هذا التحالف، وذلك لكونه حزبها حزبا قوميا يختلف جملة وتفصيلا مع حزب الشعوب الديمقراطي حامل لواء الأكراد في الداخل التركي، لكنها تحولت بـ180 درجة مئوية بصورة مفاجئة، ورضخت فيما يبدو لمطالب السفارة الأمريكية، وانصاعت لتعليماتها، ولم تبد أي معارضة تذكر حتى الآن على الأقل لفكرة انضمام الشعوب الديمقراطي لتحالف الطاولة السداسية.

لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ تم الكشف عن وصول فريق تقني وإعلامي ممن شاركوا في الحملة الدعائية للرئيس الأمريكي بارك أوباما إلى مقر السفارة الأمريكية في أنقرة والتمركز فيها، لوضع أسس الحملة الدعائية الضخمة للأحزاب المشاركة في ائتلاف المعارضة، المقرر تنفيذها مع بداية الشهر المقبل، بل وزاد الحديث مؤخرا عن رغبة واشنطن في توسيع تحالف الطاولة السداسية ليضم إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي عددا من الأحزاب الصغيرة مثل حزب اليسار الديمقراطي، وهو حزب يساري قومي متعصب للعلمانية، وكذلك حزب العمال التركي وهو حزب شيوعي ماركسي.

أسباب التدخلات الأمريكية في مسار الانتخابات التركية

القلق الذي تشعر به الإدارة الأمريكية من احتمال فوز الرئيس أردوغان مجددا بالانتخابات الرئاسية واحتفاظه بمنصب رئيس الجمهورية في السنوات الخمس المقبلة هو السبب المباشر على ما يبدو لتدخلاتها بصورة شبه علنية في مسار تشكيل جبهات المعارضة التركية، ووضع خطط أحزابها خلال الحملات الدعائية، في محاولة لزيادة قوتها ومقدرتها على استقطاب أصوات الناخبين، خصوصا أن هذه الجبهة تضم تيارات سياسية وأيدلوجية متباينة، الأمر الذي من شأنه -وفق وجهة نظرها- أن يكون عامل ترجيح لحصدها نسبة عالية من الأصوات في الانتخابات، تضمن فوزها هذه المرة، وتمكنها من إزاحة أردوغان وحزبه عن السلطة في تركيا؛ ومن ثم عودة الولايات المتحدة لاعبا أساسيا في تحديد سياسات الدولة التركية مرة أخرى، وتوجيه بوصلتها، وإعادة تركيا إلى حظيرتها.

أما استمرار أردوغان وحزبه على رأس السلطة في البلاد فمن المؤكد أنه سيعيق الكثير من خططها، وسيقف حجر عثرة في طريق تحركاتها في العديد من الملفات الإقليمية والدولية في السنوات الخمس المقبلة، خصوصا أنه لم يعد ذلك الحليف الاستراتيجي الذي يمكن الاعتماد عليه، بعد أن قرر انتهاج سياسة استقلال القرار السياسي، ورفع شعار مصلحة الوطن أولا ودائما.

ولهذا السبب تسعى واشنطن بكل قوتها لإزاحته عن السلطة في بلاده، فهي تبحث عن حليف تابع ومطيع، ينفذ ما يطلب منه دون أدنى معارضة تذكر، وليس شريكا يناقش ويجادل، يقبل ويرفض، خصوصا أن هناك الكثير من الملفات التي أصبحت تسبب لها صداعا وأرقا شديدا نتيجة استمرار أردوغان على رأس السلطة في تركيا.

 انضمام تركيا للتحالفات الإقليمية الجديدة وتهديد جبهة واشنطن

وهنا يمكن تلخيص أهم الملفات التي تخشى واشنطن من استمرار أردوغان في السلطة بسببها:

1 –  التحالف الجديد الذي بدأ يتبلور في المنطقة، مهددا مكانتها ومصالحها، والذي يضم كلًّا من روسيا، والصين، والمملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية في إيران، واحتمال دخول تركيا -التي رحبت بالاتفاق السعودي الإيراني بحرارة- على خط هذا التحالف، وهو ما سيضعف حتما الجبهة التي تقودها الولايات المتحدة لتقويض قوة كل من روسيا والصين أولا وإيران ثانيا.

2 –  مسألة استمرار التعاون التركي الروسي، الذي تتسارع توجهاته، ويتسع مداه ليشمل معظم المجالات العسكرية، والاقتصادية، والأمنية، ومجال الطاقة، وهو ما يسبب حساسية بالغة للإدارة الأمريكية، لكونه يضمن لموسكو الاستمرار في تهديد المصالح الأمريكية في منطقة شرق آسيا والقوقاز، ويحد من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

3 – زيادة القوة العسكرية التركية، مع تنوع الصناعات الدفاعية المنتجة محليا، وتأثيرات هذا بالسلب على مصانع الأسلحة الأمريكية، وفي اليونان المجاورة لتركيا، وما يشكله من تهديد دائم لدولة أصبحت الحليف الأول لواشنطن في شرق المتوسط، وتستخدم أراضيها قواعد عسكرية، وتجعلها رأس حربة لها في المنطقة.

4 – الوجود التركي على الأرض في كل من سوريا والعراق وليبيا، وتأثيرات هذا على مجريات السياسة الأمريكية المرتبطة بكل ملف من هذه الملفات.

5 – انتهاج أردوغان سياسة مستقلة، ووقوفه حجر عثرة في وجه تنفيذ المطالب الأمريكية في ملفات عديدة من أبرزها على الساحة الدولية حاليا مسألة انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وتعنته في الموافقة على عضوية السويد بالحلف في أعقاب جريمة إحراق نسخة من القرآن الكريم بإذن من السلطات السويدية، وهو ما أشعل حدة غضب واشنطن تجاهه، حتى وصل الأمر إلى تهديده علنا، ومساومته على الموافقة بمنحه صفقة طائرات أف -16 المحدثة مقابل موافقته على انضمام السويد إلى الناتو.

خلاصة الأمر أن واشنطن تبحث في تركيا عن حليف تابع يسير في ركابها، وهو ما يبدو أنها وجدته في أحزاب المعارضة، فمنهم من هو بالفعل حليف لها، ومنهم من يدرك أن مصالحه وتحقيق أهدافه لن يتأتى إلا عن طريقها، وهناك من أبدى استعدادا لتنفيذ سياساتها الإقليمية مقابل مساعدته على اعتلاء السلطة التي يشتهيها بشدة، كما أن بينهم من يسير في الركب فقط لكراهيته للرئيس أردوغان.

المصدر : الجزيرة مباشر