الصوفية التركية في قلب الزلزال

هناك مراحل تعد نقاطا فاصلة في حياة الأمم والأفراد على حد سواء، والجامع بينها أنها تترك بصمتها على ما تلاها حتى تأتي مرحلة جديدة، ومن المراحل الفارقة بالنسبة لي مرحلة السجن والاعتقال، ثم الهجرة والاغتراب، وكلها مراحل ليست بالقصيرة، لكن أن تمثل رحلة من خمسة أيام مرحلة فاصلة، فهذا لم أجده إلا في زيارة المحافظات التركية التي ضربها الزلزال المدمر، الذي ما زلنا نشعر بارتداداته الحسية والمعنوية حتى الآن.

خمسة أيام زرت فيها خمس ولايات هي أورفا، وأديمان، وكهرمان مرعش، وغازي عنتاب، ثم ماردين، كانت كخمس سنوات، في حصيلة العبر والدروس والمشاهدات.

بداية الرحلة:

بدأت الرحلة بعد قرار الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إرسال وفد من مجلس أمنائه لتفقد أحوال المسلمين في جنوب تركيا ثم شمال سوريا ومواساتهم في مصابهم، وتولت ترتيب الزيارة جمعية علماء تركيا “أوماد” برئاسة الشيخ عبد الوهاب أكنجي، بالتنسيق مع مؤسسة IHH كبرى جمعيات الإغاثة التركية وهي مؤسسة لها إسهامات عالمية، ومعها كان أول دروس الرحلة؛ حيث رحبوا بوفد الاتحاد والشراكة معه، وقالوا إن الحاجة ماسة إلى وجود العلماء بين الناس الآن، ولا ننتظر ما ستمدنا به رئاسة الاتحاد من مشاركة، فخذوا مما عندنا وقدموه للناس، حتى يصل إلينا ما وعد به فضيلة الأمين العام الدكتور علي القره داغي الذي قاد حملة تبرعات كبرى عبر وسائل الإعلام القطرية.

توجهنا من ولاية “شانلي أورفا” إلى “أديمان” إحدى الولايات التي شهدت دمارا كبيرا من آثار الزلزال، وربما لم تتقدم عليها إلا ولاية “هاطاي”، ثم قضينا ليلة في مدينة اسمها “منزل” في ضيافة الشيخ السيد عبد الباقي الحسيني وأتباعه وطلابه في الطريقة النقشبندية الخالدية أو طريقة منزل حسب التعبير الشائع، ومع أن البلدة ليست بعيدة عن الأماكن المدمرة، فلم يصب أهلها أذى، وهي مدينة عريقة جميلة، كل مبانيها أشبه بالقصور، والاهتمام بالجمال العمراني هناك في أعلى صورة وأبهاها، والمساجد وملحقاتها بُنيت على غير مثال سابق مما نعرفه.

ثم توجهنا إلى “كهرمان مرعش” فرأينا صورا من الدمار المتصل تجاوزت هول ما رأيناه في “أديمان”!

وكل من بقي من سكان هذه المدن يسكنون في الخيام، حيث لا يوجد أي مظهر من مظاهر الحياة؛ إذ أصبحت كأنها مدائن أشباح بعد أن قطعت الحكومة الكهرباء والغاز عنها خوفًا من تأثير الزلزال في هذه المرافق، وحرصًا على سلامة الناس حتى لا يذهبوا إلى بيوتهم التي ربما تسقط عليهم.

ثم انتقلنا إلى مدينة غازي عنتاب، وهي أقل تضررا من جيرانها لاسيما عاصمة الولاية، فوجدنا فيها بعض مظاهر الحياة، ومحلات مفتوحة للبيع والشراء فشعرنا عندها بالعودة إلى الدنيا مرة أخرى، مع أن الزلزال عاودها مرة ثانية في أول ليلة وصلنا فيها، وكانت قوته 5.8 على مقياس ريختر؛ لذا لم نعرف النوم المتصل في هذه الرحلة، وأصبحت لا أفرق كلما استيقظت ليلا بين الواقع والحلم: هل ما أشعر به زلزال حقيقي، أم هو من أحلام اليقظة أو كوابيس النوم؟!

ونظرًا إلى أن الدولة التركية جعلت رحلات الطيران مجانية لأهل المناطق المنكوبة لأي وجهة يقصدونها، فقد تعذّر حصولي على تذكرة رجوع، لذا ذهبت إلى ولاية “ماردين” على حدود العراق، وبقيت فيها يومين لأتمكن من العودة إلى إسطنبول.

نقاط استوقفتني

في هذه الرحلة تذكرت بعض الأصدقاء من الصحفيين والكتاب، وقلت لو كانوا هنا لكتبوا في ذلك كتبا وروايات، لكني سأذكر بعض النقاط التي استوقفتني وتركت أثرا كبيرا في نفسي:

أولا: مبادرة الشعب التركي للإغاثة، وتطوع الشباب لعمليات المساعدة في الإنقاذ، وهي مبادرات فردية بعيدا عن أي إطار جماعي أو تنظيمي، إذ تحرك كل واحد منهم بوازع أنه يجب عليه أن يفعل شيئًا.

ثانيا: مؤسسات الإغاثة التركية الرسمي منها والشعبي، يستشعر القائمون عليها أنهم في جهاد مقدس، فإن كان جهاد الأعداء ضربا وقتالا، فإنهم في ميدان الإحياء والإنقاذ، وشعارهم: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.

ثالثا: الدولة التركية بكل رموزها ومؤسساتها حاضرة في موقع الحدث، حيث تنسق الجهود لتخفيف وطأة الكارثة، وسجلت شهادتي وقتها قائلا: إن هذا الزلزال المدمر لو كان في أي دولة أقوى وأرقى من تركيا، ما كانت لتقوم بما قام به الأتراك، نظرًا إلى تكامل منظومة الدولة مع الأفراد والهيئات والمؤسسات.

رابعا: أظهرت كارثة الزلزال وحدة الأمة الإسلامية وتماسك بنيانها، على ما تعانيه من حرب التمزيق والتفريق، حيث تداعت الأمة لنجدة الشعب التركي والسوري فيما ألمّ بهما من بلاء، وعاينت من ذلك صورا رائعة أعادت ما كان عليه أسلافنا الأوائل ومن ذلك:

1- وقع الزلزال قبل الفجر ففزع الناس إلى الشوارع التي تغمرها الأمطار والثلوج، وهرع غالبيتهم إلى المساجد حيث وجدوا فيها أمنا حسيا ومعنويا، فغالب المساجد الكبرى لها أوقاف وملحقات تقدم الزاد الروحي والبدني، ولاسيما الجماعات الصوفية التي رأينا شيوخها بين الناس، وفي مقدمة الصفوف يقدمون التغذية والتحلية، بما يقيم الأود ويقوم السلوك، في نظام دقيق وترتيب لا عهد لنا به في بلادنا، حيث رأينا وقف الشيخ حسن في غازي عنتاب يقدم من مسجد واحد أربعين ألف وجبة يوميا يقوم عليها بنفسه الشيخ أحمد وزبكي وطلابه ومريدوه في الطريقة الشاذلية، وكنا قبلها بساعات قد رأينا ذلك من فضيلة الشيخ عبد الله الأزهري مسؤول المدرسة الفاروقية في كهرمان مرعش، مع تقدم سنّه وسابقته، مما جعلنا أمام وجه آخر للطرق الصوفية العاملة في كل ميادين العلم والجد، وليس الطرقية القائمة على الخرافة والبطالة.

2- جهز مجموعة من الشباب الفلسطينيين في تركيا عدة شاحنات معبأة بالمواد الإغاثية وذهبوا إلى الشعبين الشقيقين، فقال لهم الأتراك عندنا ما يكفينا والحمد لله، فاذهبوا بها إلى إخواننا في الشمال السوري فالحال عندهم أشد والمؤنة أقل، فتحرج المسؤول عن الحملة وقال إنها جمعت لكم وهي موقوفة عليكم، فتدخل تاجر تركي وحل المشكلة قائلا: أنا سأخرج من عندي مثل ما في هذه الشاحنة لأهل البلد، وتكون القافلة هدية مني لإخواني في سوريا! المتبرع شاب فلسطيني، ثم يتبرع بها منكوب تركي، ثم يتبرع بالمثل تاجر في بلد منكوب، بما يؤكد أن الهزات زلزلت الأرض ولم تهتز معها رابطة الإخوة، أو تفصم عرى الإيمان.

3- أحد أصدقائي من علماء الأزهر يقيم في ولاية أضنة، فاتصلت للاطمئنان عليه حيث كانت مدينتهم ضمن المدن المزلزلة، فقال لي إنه كان مع حملة إغاثة من “أضنة” لأهل “هاطاي” لأن الأضرار عندنا بسيطة والكارثة هناك مروعة، والطبيعي أن مثله يحتاج إلى فترة راحة، وربما لعلاج نفسي من آثار الزلزال، وليس المشاركة في حملة إغاثة في الحال، لكن هذا حال أهل القرآن.

4- بادرت الشعوب العربية لمساعدة إخوانهم الأتراك، وكان أهل قطر في المقدمة كالعادة بتبرعات زادت على ملياري ليرة تركية، ثم الكويت والسعودية وباكستان، ولفت أنظار العالم مسلم باكستاني يقيم في أمريكا، حيث تبرع في السفارة التركية هناك بثلاثين مليون دولار من دون أن يفصح عن اسمه، وعلى صعيد الدول كان لزيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد أبلغ الأثر في تأكيد شعار “الصديق وقت الضيق” الذي تزيده الأيام رسوخا بين البلدين.

5- أبرز صور تجسيد الأمة الواحدة كان في حملات فقراء وضعفاء المسلمين، لإغاثة منكوبي الزلزال في تركيا وسوريا، حيث أعلنت الإمارة الإسلامية بأفغانستان عن دعمها للشعبين الشقيقين، بعشرة ملايين لتركيا وخمسة ملايين لسوريا، ثم أعلنت غزة عن حملة تبرعات في مساجدها بعد صلاة الجمعة بلغت مليون دولار، وكذلك فعل العرب داخل أرض 48 المحتلة، وأعلنت الصومال عن حملة تبرعات ردًّا لجميل تركيا ومواقفها، والختام كان من شعب الروهينغيا المشرد الذي أعلن تعاطفه مع إخوان العقيدة ومحاولة المشاركة بالمستطاع، بما يؤكد أن الأمراض التي ضربت جسد الأمة لم تنفذ إلى فؤادها، وأن الدماء التي تجري في عروقها واحدة وإن تعددت أقطارها وأعراقها، كما قال نبينا الهادي صلى الله عليه وسلم:

“المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم”.

المصدر : الجزيرة مباشر