بواعث القلق والمخاوف الشعبية.. ورسائل الطمأنة الرسمية!

من أحد المتاجر بمنطقة المعادي بالقاهرة (رويترز)

في ليلة عيد الميلاد (مساء الجمعة 6 يناير 2023)، كان حديث رأس السلطة في مصر عن القلق والخوف الذي يسود الناس، وجيد أن يتم ذكر مفردات مثل القلق والخوف، ومبعثها أمور كثيرة يعيشها المواطنون في حياتهم اليومية، ثم كان هناك حديث الطمأنة الرسمية، ومضمونه ألا تقلقوا وألا تخافوا، والطمأنة بُنيت على أمرين: الأول أن الله لن يتخلى عنا، والثاني أن المسؤولين يعرفون أكثر، ولديهم المعلومات والحقائق عن الأوضاع، والمعرفة بالحقائق تتدرج من المسؤول الأصغر إلى المتوسط إلى المسؤول الأكبر الذي لديه مجمل العلم والمعرفة، ولهذا يُطمئن الناس.

مركب الوطن والبحر المتلاطم

أنا، مثل مائة مليون مواطن، أتلهف إلى رسائل الطمأنة الرسمية، بل أدعو إلى ضرورة الشفافية المطلقة والصراحة التامة والوضوح الكامل في الحديث عن طبيعة الوضع العام في البلاد خاصة الاقتصادي، وهذه الدعوة ليست مرتبطة بتفاقم الأزمة خلال هذه الفترة الصعبة والعصيبة فقط، بل هي دعوة قديمة، وذلك حتى نفهم ونعرف كيف يسير بنا مركب الوطن، وهل نحن بالفعل نمخر عباب البحر المتلاطم بأمان ومهارة إلى شواطئ الأمان، أم هناك أنواء وأعاصير تحرف المركب عن مساره الصحيح وطريقه الآمن، أنواء وأعاصير خارجية، أو خارجة عن الإرادة، أو بعضها ناتج عن طريقة إدارة لم يحالفها النجاح في بعض رؤاها وخططها وبرامجها وجداول عملها وأولويات انشغالاتها؟

والطبيعي في إدارة الدول أن يكون الناس جميعًا على بينة مما يتم التفكير فيه والتخطيط له وتنفيذه على الأرض من مشروعات وأعمال تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم، فإذا كان هدف الحكم هو التنمية لصالح الناس، فإن هؤلاء الناس معنيون بخطط وبرامج التنمية وأولوياتها ولا ينبغي تجاهلهم أو اعتبارهم قطيعًا أو أن هناك أبًا لهم يفكر نيابة عنهم، ثم في النهاية يجد الناس أنفسهم في معاناة حياة ومصاعب عيش وضوائق إنفاق وقلق من الحاضر وخوف من اليوم والغد، وغياب يقين فيما حولهم وفزع من مستقبل غامض.

غموض وتعتيم

نحن في فترة حكم تتسم بالغموض ويكتنفها التعتيم وحتى فريق العمل الذي كنا نعرفه في مراحل حكم سابقة، خاصة مرحلة مبارك، فيمن كان معه من مسؤولين أصحاب قرار أو مستشارين مسموع لهم أو ناصحين يتم الإنصات لما يقولونه، حتى هذا النمط لا نراه في جمهورية اليوم، فهي متفردة في نمط حكمها الذي يمسك فيه رأس هرم السلطة بكل تلابيب السلطة.

ولا مانع من حدوث ذلك، فهذه هي السمة العامة للجمهورية في مصر منذ نشأتها قبل 70 عامًا، وما لم يتغير عنوان وشعار وجوهر سياسة وعمل الجمهورية، فإن كل ما نبتغيه أن يكون هناك تشارك رسمي شعبي فيما يخص الشعب بأن يتم إطلاعه على ما يجري التفكير فيه وما يتم الشروع في تنفيذه لصالحه ويتم الإنصات إلى ردود الناس ورغباتهم ومطالبهم وتمنياتهم. وما دمتم تعملون لصالح الناس، فليحضر الناس إذن في كل عمل تقومون به، ما الضرر في ذلك؟

أحاديث الصراحة المطلقة

الحديث عن القلق والخوف في الشارع ناتج عن تقارير رصد لنبض الرأي العام، وهي تقارير صادقة ما دامت تتضمن مثل هذه المعاني، وما دام رأس الحكم يذكرها ويرد عليها برسالة طمأنة بأن الأوضاع تحت السيطرة وأن الأزمة لا تزال في منطقة الأمان وألا مخاطر واردة الحدوث.

إنما مثل هذا الخطاب تكتمل جوانبه الجيدة والمحمودة عندما يتم التخلي عن أحاديث وكلمات وتصريحات تناقض الواقع المعيش، وتأتي بدلها أحاديث الصراحة المطلقة ولو كانت قاسية.

 أزمة الاقتصاد ومحرقة الأسعار

وقضية القضايا اليوم هي الاقتصاد وأزماته المركبة المعقدة والإصلاح الاقتصادي الذي تبين بعد مرور سنوات على إطلاق هذا البرنامج أنه إرهاق اقتصادي للمواطن، وأبلغ عناوين الأزمة هي الأسعار التي لم تعد في مقدور فئات وشرائح اجتماعية كثيرة، أسعار تزيد كل ساعة وتثير الذهول وتبعث على قلق كبير وخوف واسع ليس من الغد، وإنما من الساعة التالية للساعة التي يحياها الإنسان.

نحن أمام محرقة أسعار خارج السيطرة وتتسم بالفوضى والانفلات، ولهذا تتراجع بشكل واضح القدرة الشرائية، وتنمحي فكرة الادخار، ونسب التضخم المرتفعة أبلغ دليل.

تراجع قياسي للجنيه

المسؤول هنا هو ضعف العملة الوطنية (الجنيه)، فهي تتآكل بوتيرة متزايدة أمام العملات الأجنبية خاصة الدولار، والتراجع قياسي لم يحدث طوال تاريخها.

وحالة الهلع في الأسواق واقعية وغير مسبوقة، وعملية الشراء مثل كرة لهب تلسع كل من يذهب إلى السوق والمتجر، والطعام خصوصًا صار مكلفًا ومرهقًا بشكل واضح، وهذا البلد كان عنوانه يومًا عبارة تقول: “مفيش حد بينام فيه من غير عشاء”، أما اليوم فقد أصبح تدبير العشاء والإفطار والغداء عملًا جبارًا.

في اللحظة التي جاءت فيها طمأنة الناس بعدم القلق كان شريط الأخبار أسفل الشاشة يقول إن الدولار يواصل الارتفاع أمام الجنيه في تعويم جديد، وكان هناك عامل في متجر يقول لمواطنة إن سعر الزيت معروف الآن، أما في غد، فالله أعلم، ويضيف أن السعر الحالي قد يتغير في أي لحظة حتى يغلق المتجر أبوابه.

المراجعة الشاملة العاجلة

من الجنيه الضعيف المظلوم إلى الاستثمار الغائب إلى الإنتاج المتعثر إلى التصدير المحدود إلى الديون المتزايدة بشكل قياسي، إلى مشروع تنمية دون ترتيب للأولويات، إلى سياسات عامة بحاجة ماسة إلى التغيير، إلى مجال عام مغلق، إلى سلطة بحاجة لوجود أطراف أخرى معها في السياسة والحياة العامة، تضيء كشافات أمامها تحذرها من أي مطبات قبل السقوط فيها، هذا وغيره من أزمات وأخطاء ونواقص ومعاناة تكاليف المعيشة يجعل للقلق والخوف بواعث حقيقية، والطمأنة الصحيحة تتجسد في الإقرار بالواقع مهما كان قاسيًّا، والمراجعة الشاملة الجادة الشفافة لكل ما فات، والتصحيح العاجل النزيه للسياسات التي ساهمت في صنع الأزمات.

المصدر : الجزيرة مباشر