ميسي بالبشت العربي.. هل كان علينا أن نشجع الأرجنتين؟

ميسي بالبيشت العربي

 

تخيل لو أن ليونيل ميسي لم يحمل كأس العالم، ولم تّعُد الأرجنتين إلى منصات التتويج، وحملها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بكل صلفه وعنجهيته وتاريخه الاستعماري المُخزي، كيف سيكون وقعها في نفوس عشاق التانغو، المؤمنين بعدالة كرة القدم، الساعين لتتويج أسطورة الملاعب في السنوات الأخيرة، بعد غابرييل باتيستوتا وديغو ماردونا.

قطر وأعظم مونديال

في مناطق لوسيل وكتارا وسوق واقف وحديقة البدع ألهب المشجعون الأرجنتينيون حماس الناس، ورفعوا الأقمصة الزرقاء، وانطلقت الحناجر بالصرخة المقدسة وضوضاء الأغلال المكسورة، وفقاً لنشيدهم الوطني، وبهاء لا ألبيسيليستي، الذي يعني رمزية الألوان الثلاثة باللغة الإسبانية، وهى الأبيض والأزرق السماوي.
وظهر نجوم الأرجنتين، لأول مرة، بحافلة مكشوفة، تهادت في شوارع الدوحة، وعلى متنها أبطال مونديال قطر 2022، تحفهم مشاهد اليوم الوطني لدولة قطر، بالسيارات الكلاسيكية، والجمال، ورقصات السيوف، ورمزية البشت الذي ألبسه الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر لأمير العالم المتوج ليونيل ميسي، أو البرغوث، كما يلقّب، لصغر حجمه ولدغاته السريعة، حيث جعل لكرة القدم متعة بلا حدود، ليست مجرد لعبة، بل أعمق من ذلك، طريقة للقتال بضراوة ولكن دون إطلاق نار، وفقاً لتعبير الكاتب الإنجليزي جورج أورويل، وسوف تحتفظ الذاكرة والخيالات كلها بصورة ميسي وقد تزين بالبشت القطري المصنوع من الوبر الناعم والذهب، كأغلى هدية من العرب، وأعظم لقطة حوت كل الجمال، وجمعت معاني عظيمة، بين نجاح المونديال، ورمزية حفل التتويج بشياخة ميسي، والرسائل الإسلامية، التي جعلت كأس العالم، هذه المرة، مميزاً ومتفرداً لحد بعيد، بل يكاد يكون أعظم مونديال في التاريخ، من حيث الأداء المثير والتنظيم المثالي، والعروض المصاحبة، والنقل التلفزيوني البديع من بي إن سبورت، والدموع الغالية الذي ذُرفت للفرح والخسارة.

خطف حارس الأرجنتين إيمليانو مارتينيز الأضواء وحصل على نجومية معظم المباريات التي خاضها مع منتخب بلاده في هذا المونديال، عن جدارة واستحقاق، وقد استحضر لعشاق الكرة الأرجنتينية روح الحارس الأسطوري جويكوتشا مع ماردونا، الذي أثار إعجاب الشاعر محمود درويش أثناء حصار بيروت عام 1982 من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فأشعل ليالي المحاصرين بالبهجة، حين توقفت لعلعة الرصاص في وقت المباريات، ليسهر درويش مع أصحابه، تحت وطأة المخاوف من رحيل كأس العالم الذي جعل لحياتهم معنى وعلق في قلوبهم حب ماردونا كتميمة، يخافون عليه وعلى أملهم فيه من الانكسار، وهو يتساءل، أي درويش: ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد يا ماردونا؟

الكمنجة ومسائل أخرى

ليس من قبيلة الصدفة أن تحظى الأرجنتين بكل هذا الحب، وتجد من يشجعها، لا بدوافع ذاتية، أو لمصلحة سياسية، وإنما من أجل متعة كرة القدم فقط لا أكثر، أو ربما خوفاً من أن يفوز بها أحد الفرق الأوربية، فيجعل منها مناسبة للترويج للمثلية، كما أن صعود الأرجنتين تعويضًا منصفًا لخروج البرازيل المحبوبة أيضاً، من أجل بوينوس آيريس -الكمنجة ومسائل أخرى- من أجل كارلوس غارديل ورقصة التانغو، من أجل جابرييل باتيستوتا، ومن أجل الساحر ماردونا صاحب الحضور الصاخب في البراحات الخضراء، ومن أجل أمريكا اللاتينية التي وهبت العالم أعظم الثوار والأدباء وأساطير كرة القدم، والروح العنيدة في مقاومة الاستعمار والكفاح المرير، ومن أجل إرنستو تشي جيفارا، ولأجل ليونيل ميسي بالطبع، ولأن القميص المخطّط باللونين الأبيض والسماوي مع الشورت الكُحلي ارتبط بالإثارة الكروية، وأمجاد كأس العالم.

ما فعله ماردونا بالأمس، فعله ميسي اليوم، وهو ينتزع الكأس الأغلى من فرنسا، ويعيدها للديار، وقد تفوق بالفعل على أرييل أورتيغا، وألفريدو دي ستيفان، وعلى باتيستوتا أفضل هداف للأرجنتين على الإطلاق، ليرقص الجمهور العاشق لكرة القدم معه رقصة التانغو المثيرة. وقد عُرفت كرة القدم بالأرجنتين، وهى ربما أكثر البلدان جنوناً بهذه اللعبة، ولذلك أصبحت أول أعضاء الفيفا من خارج أوربا في العام 1891 تقريباً، وقدمت للناس أعظم النجوم، لكن مرّ عليهم نحو عقدين من الزمان، لم يفوزوا بكأس العالم، أو بالأحرى لم يحالفهم الحظ، وتحطّمت أمالهم، رغم أنهم يقدمون أروع مستوى فني، ويصنعون الأساطير، حتى أنك لا تتخيل كأس عالم دون الأرجنتين، يرحل أحدهم فيخلف من هو أحرف منه، كأن المرأة الأرجنتينية لا تعقم أبداً عن إنجاب الأسماء اللامعة، وهى الأن لديها الكأس وأفضل لاعب في العالم، ورابطة مشجعين شديدة الولع والوفاء، وإرث تليد يعزز من مكانتها العالمية، ليصبح بذلك، فوز الأرجنتين بكأس العالم  للمرة الثالثة قصة عجيبة تروى للأجيال، جرت وقائعها المثيرة في دوحة العرب.

المصدر : الجزيرة مباشر