الواقع الإقليمي وخيارات حماس تجاه سوريا

بشار الأسد يلتقي القيادي بحركة حماس خليل الحية في دمشق

مع ظهور بوادر للتواصل بين حركة حماس والنظام السوري في 19 أكتوبر الماضي، توزعت الآراء على جانبي التأييد والمعارضة، وخاصة فترة ما بعد اجتماع الفصائل الفلسطينية مع الحكومة السورية، وبغض النظر عن طبيعتها واتجاهها، تبدو أهمية لفت الانتباه للوضع السياسي واتجاه العلاقات الإقليمية، وذلك لكون السياق العام المؤَثر في سلوك حركة حماس وغيرها من المكونات الفلسطينية، وهنا، تبدو مناقشة الجوانب للتواصل الفلسطيني ـ السوري ضرورية لفهم السلوك السياسي للأطراف كلها.

فجوة العلاقات العربية

على مدى عقد ونيف، يواجه النطاق العربي مشكلات مزمنة، وتمثل الصراعات الأهلية عامل إضعاف الدور العربي إقليميًا ودوليًا مما أتاح فرصًا أكبر لظهور إسرائيل ضمن مناقشات الأمن الإقليمي، بالإضافة لتنامي الدور الإقليمي لإيران على حساب الدور العربي، وقد أدت هذه التغيرات لظهور تحديات جديدة أثرت في أولوية القضية الفلسطينية لحساب ملفات أخرى، فمن جهة، لم يسهم الربيع العربي في تسوية مشكلات المنطقة بقدر ما ترتبت عليه أزمات في عدد من البلدان، وبغض النظر عن أسبابها، ظلت النتائج شاهدة على وجود فراغ في السياسات العربية، لم يتم تجاوزها حتى الآن، ويكمن المُشكل الأساس الذي صاحب محاولات التغيير في تكوين ثقافة استبعادية وتصنيفية على أرضية الثورة والدولة دون توافر معايير موضوعية وتجريدية لمثل هذه التصنيفات، وتظهر عدائية في بعض مراحلها.

ومن جهة أخرى، تشكلت تحالفات أولية تحت مزاعم الثورة والثورة المضادة، وقد انشغلت هذه الحالة بالتقويض المتبادل، سواء بين الدول العربية أو انهماك الحركات السياسية في صراعات غير ناضجة، وقد ترتب على هذا النمط من التفاعل وجود ظاهرتين، كانت الأولى في إعلاء الأولويات المحلية على تقديم فهم مشترك للأمن الإقليمي، سواء فيما يتعلق بالجدل حول وضع إيران في المنطقة أو النظر للتهديدات الخارجية الآتية من العوامل الدولية، وخصوصًا مع تصاعد احتمالات حرب عالمية. أما الظاهرة الأخرى، فقد ترتب على التباينات الإقليمية ظهور تفاوت كبير فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، حيث برزت قاطرة تطبيع غير مشروط، لم يساعد على ترتيب الأولويات المشتركة للسياسة الخارجية في الدول العربية.

وخلال هذه المرحلة الرخوة، أُعيد طرح مبادرة “منظّمة الدفاع للشرق الأوسط” في 2017 (الناتو العربي) لملء فراغ الأمن الإقليمي الناتج عن غياب نظرة إقليمية مشتركة، وتحاول الولايات المتحدة لأن يكون إطار “النقب” الصيغة الإقليمية للمشروع الأمني، بحيث لا يقتصر على إدماج إسرائيل في مستويات أمنية واقتصادية عبر السماح للشركات العسكرية الإسرائيلية بالعمل في العالم العربي فقط، بل يعمل على تذويب حواجز الثقافة السياسية للشعوب والعمل على تغييرها جذريًا. كانت المؤشرات الأولية لاجتماعات مايو الماضي واضحة في تغييب ممثلي فلسطين عنها تمهيدًا لتحويل مطالبهم لمساومات بين إقليمية على أساس محوري التطبيع ورافضيه وتوجيه الأنظار نحو حرب مشتركة ضد إيران.

ووفقًا لاتجاه العلاقات الإقليمية، يمكن ملاحظة تذبذب العلاقات بين الدول واختلافها على أولوية للقضية الفلسطينية، وبغض النظر عن خلافات التطبيع، ظلت أطروحات التسوية السلمية راكدة، لاعتبارات منها امتلاك التوجهات التطبيعية مرونة الحراك نحو إسرائيل، فيما استمرت بلدان أخرى مُنكفئة على شؤونها الداخلية، ومع اهتزاز العمل المشترك لم يعد البعد الإقليمي يشكل ظهيرًا مطمئنًا، فيرتبط الخلاف في الوقت الراهن بمسألة التطبيع، وبنظرة على المتغيبين عن التمثيل الرفيع المستوى، باستثناء العربية السعودية، هم الأكثر انخراطًا في سياسات التطبيع. التحدي الذي يرتبط بهذه المشكلة، يكمن في اختلاف الرؤية تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة ما يتعلق بشكل الحل النهائي في قضايا الدولة، واللاجئين وتجديد الحركة الوطنية الفلسطينية.

الأزمة المستمرة في سوريا

ويمثل الخلاف على عودة سوريا في الجامعة العربية وضعًا إشكاليًا، وخصوصًا أن الجامعة لم تطرح تصورًا لتسوية أزمات العلاقة بين الحُكم والمعارضة أو المساهمة عبر الأمم المتحدة في تقرير الصياغات النهائية للخروج من الأزمة، فرغم أنها دولة مؤسسة في الجامعة العربية وتتمتع بشخصيتها الاعتبارية، ظل موقعها فارغًا في حين تشغل موقعها بالأمم المتحدة، وقد ظهرت المشكلة السورية نتيجة عوامل عديدة، ليس من السهولة تحميلها على متغير واحد، فمنذ إعلان جنيف في 2012 استمرت سوريا في دورة مناقشات دولية لم تؤد لوقف الحرب الأهلية. في البداية، وقع الحراك السوري بين متناقضات عدة، كان أهمها المفاضلة بين التحول السلمي أو العنيف، وفي ظل غياب القدرة على الحسم، تفاقمت الأوضاع تحت اتساع نطاق التدخل الدولي بحيث صارت الأمور استنزافًا لموارد البلاد وتفكيكًا لمقدراتها.

في السياق السوري، تشكلت صورة إيران لدى الكثير من السياسيين العرب في تصدير الصراع المذهبي في الدول العربية، وقد شكلت الأحداث وعي كثير من النخب العربية في سوريا والعراق وبلدان أخرى. أما المسار الثاني، فقد أسهم لجوء إيران لفكرة تصدير الثورة في تكبير صورتها السلبية في العلاقات الإقليمية، ووصلت في بعض المراحل لحالة عدائية، كما راكمت أنماطًا من الصراع السياسي عزز استمرار الحرب الأهلية، فضلًا عن ظهور انقسام إستراتيجي بين مؤيدين ورافضين للسياسات الإيرانية، وفرت هذه السياقات اتهامات جاهزة للجهات المتواصلة مع إيران والمتعاطفين مع ثورتها، وخاصة بعد تداعيات وجودها في سوريا ومساندتها لنظام البعث وتدخلها في اليمن والعراق ولبنان.

وهنا، بدت الحلول المختلفة، عبر هذه الفترة، مفتوحة على البحث في صيغ مختلفة للدولة والحُكم، ودرات المقترحات ما بين تحقيق الاستقرار عبر إسقاط الحكومة والإطاحة بها حلًا أخيرًا ووحيدًا وبين التفكير في مراحل انتقالية وإعداد دستور جديد. غير أن تفاقم الأزمات وتعدد مصادر تفكك الدولة والمجتمع، انتشرت ظواهر تعدد السلطة وتمزيقها بين جماعات ومنظمات بحيث يصعب الحديث عن فرصة عودة دولة متماسكة أو مجتمع متجانس.

فمن وجهة أولى، تصاعدت الانتماءات المحلية في مقابل الولاء للدولة، بحيث صار هناك وعي جزئي بقضايا السياسة والإصلاح والتنمية صاحبها تسارع السيطرة على مناطق ونزعها عن السلطة الرسمية. خلقت هذه الحالات مناطق نفوذ وإدارة ذاتية، سعت في بعض مراحلها للاستقلال والانفراد بالموارد، وهي صيغة أقرب للتقسيم الفعلي.

ومن وجهة ثانية، انصبت المشاريع الدولية لحل أزمة سوريا على تكوين هوية جديدة بعيدة عن العروبة والإسلام، فقد اقترحت المسودات الدستورية شكلًا للدولة يقوم على العلمانية دون تقديم إطار يعالج الانقسامات القومية والدينية.

ومن وجهة ثالثة، أن أطرافًا سورية عدة شاركت في الانتهاكات ضد الإنسانية، حتى صار الوضع يحتاج مساهمات سياسية وإنسانية لوقفها، خاصة بعد فشل الحرب ومقترحات التسوية في تقديم مشروع متماسك يقود البلاد للاستقرار.

الإسلاميون في الواقع الإقليمي

أدت هذه القيود لوقوع حماس تحت أولويتي؛ البقاء ضمن حركة وطنية والانشغال بتطوير علاقاتها الإقليمية أو العزلة والعمل منفردة. ترتبط هذه التوجهات بمدى القدرة على التصدي لأعباء المرحلة، وحشد الإمكانيات السياسية الكافية للبقاء طرفًا في المعادلة السياسية والتموضع المناسب لمعالجة تحدي وجود كيان يستوعب الفواعل الفلسطينية، وفي هذا السياق، يمكن تناول تواصل حركة حماس مع النظام السوري جاء في سياق البدائل المُمكنة، وخصوصًا مع مساهمة الأطراف السورية كلها لإطالة الأزمة.

وقعت هذه الأحداث في تزامن مع تسارع تراجع الإسلاميين بعد الحراك السياسي في 2011 بمسارين؛ الأول، حيث تنامي عمليات مقاومة التحول السياسي وكبح المحاولات الديمقراطية. تمثلت نتائج هذا المسار في عودة النخب التقليدية للسلطة أو نشوب حروب أهلية، وقد أسهمت أزمات الإسلاميين في تباين مواقفهم تجاه الأحداث المتسارعة ومحاولة تأطيرها من منطلقات تأصيلية متجانسة، لم تسعفها في التمييز ما بين العداء لإسرائيل وبين إقامة علاقات مع دول في حالة خلاف سياسي معها. يرتبط المشكل الأساس في ضعف قدرة الإسلاميين لاتخاذ موقف تفاوضي إزاء التغيرات المتسارعة، بحيث يُمكنها من صياغة قراءات متنوعة، أما المسار الآخر، فقد كشف تسارع حملات التطبيع مع إسرائيل عن انقسامات بين الإسلاميين وتدهور قدرتهم على التكيف مع التحديات الجديدة أو عدم جاهزيتهم لها، ولذلك، بدت القابلية للتفكير في تسوية أزماتهم المتعددة نادرة وقليلة للغاية، وتُعبّر الانتقادات الفورية لتواصل حركة حماس مع سوريا عن غياب تصور ذهني للتعامل في ظل الأزمات المستمرة، سوى اتباع نموذج تقليدي بالاعتماد على عنصر الزمن مُتغيرًا وحيدًا.

وبشكل عام، يمكن قراءة التَشوش القائم تجاه التصرفات السياسية بتداخل العوامل السياسية والمذهبية في الصراع الإقليمي، فقد تبنى الكثير نوعًا من التفسير الجاهز لأي مشكلة أو معضلة، بحيث وضعها ضمن تصنيف أسطوري لا يرقى لاستكشاف الأسباب المباشرة للحدث، ولعل المعضلة تكمن في تبني الحلول الفئوية القائمة على التصنيف الديني، وفي حقيقة الأمر، تتشكل الصورة الذهنية عن التقارب أو العلاقة مع إيران بوصفها ولاءً مذهبيًا ومساعدة على انتشاره. بالطبع، لا يمكن التغاضي عن مشكلات التدخل الإيراني في الدول العربية، لكنه من المهم قراءتها في ضوء التوازنات الإقليمية من وجهة سياسية.

ويرجع عدم التمييز بين الخصوم والأعداء والحلفاء لارتباك النظر في الأولويات، وتتطلب محاولات التصدي لبناء نموذج المفاضلة والتأويل لتوسيع مجال النظر والعلم الكافي بالظواهر والتاريخ واستقراء التجارب السابقة حتى يكتمل النظر الفقهي، فالمشكلة القائمة اليوم، هي غلبة الاجتهادات الفردية أو الاستعانة بآراء سابقة، وإهمال سياقها، لا تأخذ في الاهتمام الجوانب المختلفة للظواهر المُركبة، وخصوصًا مع تبنى افتراضات غير قائمة كالأمة والدولة الإسلامية، ويظهر نوع من الفصام مع سَوق الانتقادات عندما يتعلق الأمر بالعلاقات فيما بين المسلمين، لكن لا يظهر رأي واضح لدى فتح قنوات اتصال مع دول أخرى، كالولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا أو الصين.. وغيرها من الدول.

وعلى أي حال، فإنه من وجهة المسؤولية السياسية، فإنه لاختلاف القدرات والوظائف، يصعب القول بتماثل عوامل التقييم لكل من الدولة والحركة، فمن وجهة القدرات السياسية تبدو الدولة/السلطة أكثر قدرة على تحقيق أهدافها سواء عبر القانون أو غيره من الوسائل، ومن خلال الإمكانيات المتوافرة لدى الدولة ومشروعيتها، يمكنها فرض الأمر الواقع والإكراه لفرض قرار ما أو اختيار سياسة عدائية أو تصالحية تجاه الأطراف الأخرى، وعلى خلاف ذلك، تقوم الحركات السياسية على الجهد الطوعي والذي قد يصل في أعلى مراحله إلى الالتزام العقدي أو التنظيمي، وهي في ذاتها تعبيرٌ عن التضامن تجاه أهداف مشتركة، وتظل مواردها مرتبطة بمستوى الثقافة الجمعية واتساع شبكاتها الاجتماعية وترابطها التنظيمي، وارتباطاتها الخارجية.

وبشكل عام، تقتضي الموازنة والاعتبارات الموضوعية مراعاة التطلعات الواقعية والمثالية، تبدو النسبية حلًا وسطًا يقوم على الموازنة، وهنا، يمكن النظر لأربع معادلات، القيم الأخلاقية نسبية ويمكن تقديرها حسب موازنة المصالح والمفاسد، وبشكل عام يتسم العمل السياسي بالنسبية ولا يُمكن جَبره على قواعد مطلقة، ولعل قصر تفسير السياسات على تأويل واحد يعكس نمطًا أيديولوجيًا لا يستجيب للتغيرات اليومية، فالمسألة ليست في جرائم الإبادة البشرية، بقدر ما هي وقف تكرارها أو التمادي فيها عند غياب الحلول الأخرى. يتعلق هذا الأمر بالقوة الفكرية ومدى تلبيتها للحاجات القائمة، وهنا، يمكن النظر باهتمام لتنوع العلاقات طريقًا للحفاظ على الانفتاح مع الحلول الممكنة ضمن حركة وطنية.

المصدر : الجزيرة مباشر