ماذا يعني فوز لولا دا سيلفا؟

هل نجت البرازيل فعلا من خطر اليمين المتوحش؟

لولا دا سيلفا

 

بشقّ الأنفس، فاز الرئيس الأسبق البرازيلي لولا دا سيلفا برئاسة البرازيل للمرة الثالثة في مسيرته السياسية، بنسبة 50.8% من الأصوات على خصمه جايير بولسونارو المنتهية ولايته، والذي حصل على 49.1 %. وقد كانت النتائج متقاربة طوال ساعات الاقتراع لدرجة أن لحظة الحسم لم تتأكد سوى عند الوصول إلى فرز 98% من الأصوات. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجولة هي الثانية، نظرا لأن الجولة الأولى التي جرت يوم 2 أكتوبر الماضي، لم يفز فيها أي مرشح بأكثر من 50% من الأصوات كما ينصّ على ذلك الدستور البرازيلي.

حظيت هذه الانتخابات الرئاسية باهتمام دولي كبير، نظرا لأهمية البلد على مستويات عديدة ولأهمية المتنافسين وانتمائهما لعالمين متناحرين أيديولوجيًا، إلى درجة أن البعض وصفهما بالنقيضين. وقد طرح التنافس الحاد للمرشحين على الفوز برئاسة البرازيل، تخوفات كبيرة من الوصول إلى سيناريوهات العنف وربما الدم في مجتمع يحتوي 156 مليون ناخب، ويُسمح فيه بحمل السلاح. زد على ذلك أن بولسونارو الرئيس المنتهية ولايته والذي يُنعت بترامب البرازيل كان يستبق التشكيك في نزاهة النتائج في حال هزيمته، ويلمّح للتمرّد أُسوة بما حصل في انتخابات الولايات المتحدة الماضية.

التعرف عليهما:

لفهم التناحر بين الفائز بالرئاسة لولا دا سيلفا و بولسونارو الرئيس المنتهية مدته، جدير بنا التعريف بكِلَيهِما، وبالرؤية السياسية لكل منهما. حيث ترتبط صورة بولسونارو بالعسكري الذكوري المتعالي على الطبقات الاجتماعية الضعيفة، وحليف البلطجية ورجال الأعمال المتوحشين، وغير المبالي بالقضايا البيئية وضرورة الحفاظ على ثروة الغابات الأمازونية وحمايتها من أطماع رأس المال الجشع والتصنيع الذي يزحف على مساحاتها بشكل شرس. ومع كل هذا يتضرع إلى الله تحت أنظار الكاميرات في أن يمنحه القوة على دحر خصومه، لأنه واثق تماما أن فهمه للحياة هو الأسلم، ويجب أن يسود على كل المجتمع.

إضافة إلى ماتمّ ذكره، اشتُهر بولسونارو بازدرائه لملف الحريات الشخصية، وانتشائه بإهانة المثليين مثلا وإيمانه بضرورة قتلهم. أما موقفه في بداية جائحة كوفيد 19، فقد جعل اسمه يغزو جميع أصقاع الأرض، عندما أنكر وجود جائحة من الأساس، واستهان بكل إجراءات الوقاية منها، وهو ما تسبب في تصدّر بلاده قائمة البلدان الأكثر تضررا من الجائحة، لاسيما من حيث عدد الوفيات. وعكس آداؤه خلال تلك الفترة، جهله بقيمة العلم والطب.

في المقابل، يرتبط اسم الفائز بالرئاسة لولا دا سيلفا بصورة المناضل الناجح، مرشح الكادحين ونصير الفقراء. غير أن هذه الصورة الطوباوية في الحالة البرازيلية لم تنحصر في أحلام المحرومين، بل إنها صورة ثابتة، راسخة في عقول المؤمنين به، بفضل تجربته في السلطة، حيث أن لولا دا سيلفا، يمثل طبقة واسعة من المجتمع البرازيلي، ترعرع بين أنياب الفقر مع أمه وشقيقه، وعاش حياة قاسية دفعته للانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة، من أجل إعانة والدته على توفير القوت اليومي. لكن حسه الثوري ووعيه الفائق بضرورة النضال كوسيلة وحيدة لتغيير الواقع، جعله ينجح في التربع على عرش الزعامة النقابية في عمل المناجم. وشيئا فشيئا، اقتحم عالم السياسة ومرّ بخيبات وكبوات، لكنه نال هدفه في 2003، ونُصّب رئيسا للبرازيل، وأثبت كفاءة ونجاعة سياسية خوّلت له إعادة انتخابه لمدّة ثانية في 2007، ليترك البرازيل بمؤشرات اقتصادية واجتماعية، اُعتبرت بمثابة العصر الذهبي. وغادر الرئاسة عند انتهاء مدته بكل تحضّر، استجابة لضوابط الدستور البرازيلي الذي يمنع الرئيس من الترشح للمرة الثالثة على التوالي.

ولأنه أعرب عن رغبته في الترشح للرئاسة من جديد سنة 2018، فإن لوبي العسكر الذي راهن على بولسونارو في تلك المرحلة، نجح في سجنه على خلفية اتهامه بقضايا فساد مالي، لكن المحكمة العليا بعد ثلاث سنوات حكمت ببراءته. والطريف في الأمر أن القاضي الذي حكم بسجن لولا في 2016، عيّنه بولسونارو على إثر فوزه بالرئاسة، وزيرا للعدل!!!

لغة الأرقام

قد يعتقد البعض أن هذا انحياز للفائز بالرئاسة لولا دا سيلفا، لكن يمكن دحض هذا الاتهام باللجوء إلى لغة الأرقام التي تُبرز وحدها حسن آدائه، حيث دخلت البرازيل في عهده مجموعة البريكس للقوى الاقتصادية الكبرى، بفضل النمو الذي حققته، إضافة إلى أن البرازيل في عهد دا سيلفا تمكنت من تسديد كل ديونها لدى صندوق النقد الدولي. ناهيك عن القفزة التي شهدها مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية في فترة حكمه، وإنقاذ 30 مليونا من أنياب الفقر. وقد حققت شعبيته عند نهاية فترة حكمه 80%.

لكن كل هذه المحاسن التي تميزت بها رئاسة دا سيلفا بين 2003 و2010، يُجمع أغلب خبراء السياسة، في أمريكا الجنوبية أنها باتت من الماضي، وأن فوزه هذه المرة لا يعني أبدا عودة الزمن، فالمشهد الجيو سياسي العالمي، تغيّر بشكل كبير. أمّا المنطقة التي عاشت أمجاد موجة يسار القرن الحادي والعشرين التي قادها هوغو تشافيز من فنزويلا، فعليها أن تعي أن أنصارها لم يعودوا يعبؤون بالتنمية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، لأن الشباب اليساري اليوم منشغل أكثر بالحريات الشخصية وقضايا المثلية والإجهاض وضرورة تحييد الدين عن الحياة الأسرية والاجتماعية، لكن دا سيلفا، الرجل ذي السابعة والسبعين، تشبع برؤية سياسية لا تقدر على الانصياع لهذا التيار الجارف، وإن جامله على الملأ.

على صعيد آخر، تعتبر مهمة دا سيلفا في الرئاسة هذه المرة، محفوفة بالعراقيل والمخاطر، نظرا لفقدان الانسجام مع المشهد التشريعي ورئاسات الفيديراليات، إضافة إلى أن الانقسام الذي يشهده المجتمع البرازيلي مؤخرا لايبشر بخير أبدا.

المصدر : الجزيرة مباشر