فصول من رحلتي إلى اليمن السعيد (1)

هذه فصول من رحلة مغترب، رمته الحياة بعيدا عن أهله، ولم يكن له من ذنب غير حلمه بقدر من الحرية، تُعاد به إنسانيتنا، وكرامتنا المهدورة. هي فصول من وجع الإبعاد، وضريبة من يسلك طريق الحرية والديمقراطية. كانت البداية بليبيا ثم الشام ثم لبنان. وها نحن نصل بالرحلة إلى اليمن.

من خاطر «اليمن» الخضرا ومهجتها … هـذي الأغاريد والأصداء والفكر(عبدالله البردوني)

قال الإمام الشافعي :

لا بد من صنعاء وإن طال السفر….وأقصد القاضي إلى هجرة دبّر

(ودبّر هي قرية في سنحان في اليمن، والقاضي هو العالم إسحاق بن ابراهيم الدبري).

وأنطقه حبّها، فأسكب عليها رحيقه، فأشعلت نورها في أقوال الشعراء:

يوما تغنى فى منافينا القدر،

لابد من صنعاء وإن طال السفر

لابد منها .. حبّنا أشواقها،

تدوى حوالينا إلى أين المفر

قادنا القدر إلى ما أقرّه الإمام الشافعي، وإلى ما سكبه الشاعر عبدالعزيز المقالح من حب لعاصمة الروح كما كان يسمّيها، فتعلّقنا بها قبل دخولها، وإليها فررنا بروحنا المتعبة من طول المسير.

دخلت إلى صنعاء وأنا أحمل صورة كتلك التي عبّر عنها ذاك المتيّم بصنعاء (الشاعر عبد العزيز المقالح):

صنعاء لها وجهُ قدّيسةٍ

ولسانُ حكيم

وصوتُ شهيد

وعواطفُ شاعر.

كان عبد الله بن عمر يتقصّد أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلّ قدماه تحظى بأثره الكريم. خِلت نفسي ابن عمر وتقمّصت وجده، وغبت في هواهم، وأنا أقول من هنا مر أصحاب محمّد. وتفوح الأرض بعطرهم الزكي، كانوا هنا ذات يوم. من هنا نبتوا، وحلّقوا مع محمّد في فضاءات الرّوح عاليا. وما تزال أرضهم تدلّ عليهم. فهم خدّام النبي وأول صحبه وكلهم يتمثّلون صورة زيد بن حارثة.

وإذا انتقلت إلى ساحات الجهاد فقعقعة سيد الفوارس أبو موسى الأشعري ما تزال تقرع أذان الأعداء، وبعد سكونها يأتيك الصوت الرخيم صوت أسيد بن الخضير، فتطرب الرّوح لجمال صوته.

ومن حكيمهم حبيب بن عمرو بن حممة الدوسي تعلّمت العرب الحكمة، ومن الداهية الأربد أبا عامر الأشعري سُقلت مواهبهم، وهم ورثة العلم، وما تزال تغطّيهم بركات كاتب الوحي أبي بن كعب، وسيد الحفاظ أبا هريرة، وضماد بن ثعلبة الطبيب الأول إسلاما. أما نساؤهم فهن من أم المؤمنين جويرية بن الحارث فلله در هذه التربة العطرة.

دوّن الزعيم عبد العزيز الثعالبي رحلته إلى اليمن في كتاب (الرحلة اليمنية)، تقديم وتحقيق حمادي الساحلي، صدر عن دار الغرب الإسلامي عام 1997، يعني بعد مغادرتي اليمن.

وقد خطّ فيه من الخواطر والحكم والعبر، لو اطلع عليها أهل السياسة، لقالوا إن التاريخ يعيد نفسه في شخوص عديدة. وإذا لم يكتب السابقون تجاربهم، ويقرأ اللاحقون ويعتبروا، نسقط في دوامة تكرار التجارب.

دخلت إلى اليمن محمّلا بهمّ البحث عن الرزق، وكما يقال الرزق أرزاق، فالأمن من الخوف رزق، والأمن من الجوع رزق

في وصفه لصنعاء عام 1924 يقول الثعالبي “صنعاء مدينة أزليّة من بقايا حِمْيَر يراها القادم عليها من ناحية حزين على بعد 12 ميلا وهي ممتدّة من الشرق إلى الغرب من جبل نعيم في الشرق إلى الجبل الأسود. وأوّل ما يشاهد منها مناراتها الجميلة الصاعدة في الفضاء، ثم المباني العسكرية مثل قشلة الطبجيّة وقشلة البيادة، ثم قبابها وقصورها العالية المنتشرة على طول المدينة، وهي من أجمل مدن الشرق من حيث ضخامة البناء وتعدّد القصور”.

(القشلة هو مكان نزول العسكر، والطبجيّة هم المدفعيون، والبيادة مقدمة العسكر، وهي مسميات تركية)

وقد ذكر فيه الثعالبي العديد من الأحداث المهمة في فترة زيارته من 12 أوت/أغسطس إلى 17 اكتوبر 1924. وأبان فيه العديد من الحقائق التي تتعلّق بمواقف الإمام يحيى من الإنجليز والقوى الاوربية المتهافتة على اليمن، ومما ذكره الثعالبي قوله “وقبل خروجي من المجلس صرّح لي الإمام تصريحا باتا وهو أنه لا يوقّع اتفاقية مع أوربا تمسّ من عظمة الأمة وتخلّ بكرامة استقلالها”.

دخلت إلى اليمن محمّلا بهمّ البحث عن الرزق، وكما يقال الرزق أرزاق، فالأمن من الخوف رزق، والأمن من الجوع رزق. وقد ذكر الثعالبي في أحد رسائله التي كتبها في اليمن أن سبب خروجه من تونس كان طلب الرزق بلغة كلها ألم “إن تونس التي كنت أنفق عليها من مواهبي، وأغذّيها من روحي تركتني على أسوأ ما يكون من حالات الاضطرار، وأظهرت عجزها التام عن تغذية جسمي. فخرجت ألتمس الرزق في غيرها، بعد أن آليت أنني سأواليها بما عوّدتها به من الأغذية الروحية، وقد فعلت وما فترت عنها أبدا”.

قدمت إلى اليمن في صيف 1994 بعيد انتصار الحكومة في حربها على الانفصاليين من 4 مايو إلى 7 يوليو. تلك الحرب التي فتحت صفحة تاريخية مغايرة في تاريخ اليمن، ومما كان يتداول وقته، الدور الكبير الذي لعبه حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي تأسس بعد الوحدة في 13 سبتمبر 1990 وقادته في حسم معركة الجنوب لصالح الحكومة بقيادة علي عبد الله صالح. وقد تم توحيد شطري اليمن في 22 مايو 1990، إلا أن بعض الاختلافات نشبت لاحقا وتطورت إلى حرب أهلية، سرعان ما حسمتها الحكومة كما ذكرنا في عام 1994.

ترأس حزب التجمع اليمني للإصلاح الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، شيخ قبائل حاشد. وتشكّل حاشد مع قبائل بكيل قسمي قبائل همذان اليمنية منذ عصور بعيدة، وكانت حاشد أكثر تأثيرا سياسيا منذ سقوط الإمامية عام 1962 وبعد الوحدة عام 1990. وكان الرئيس علي عبد الله صالح من قبائل حاشد، وهو أصيل قرية بيت الأحمر التي تبعد ما يقارب 30 كلم أو يزيد قليلا عن العاصمة صنعاء، وقد كان نصيبي أن أشتغل في معهد هذه القرية النائية لمدة عامين وهي فترة إقامتي في اليمن.

للاعتبارات القبلية من خلال ترؤس الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لحزب التجمّع، ولمهارتهم في التنظّم، كان للحزب حضور في الدولة جيدا. فقادته كانت توصف بالحكمة، والصبر، وسعة الأفق، والتنظّم الجيّد. وقد أولى قادة الإصلاح المسألة التعليمية أهمية كبرى. وقد كان التعليم في اليمن في تلك الفترة موزّعا بين جهازين: الجهاز المركزي ومتمثًلا في المدرسة الرسمية، التي كانت تعاني من إخلالات عديدة، وما كان يسمى بالمعاهد العلمية التي هي أيضا تابعة بشكل ما للجهات الرسمية، إلا أن الماسكين بكل دواليبها تسييرا وبرامج هم عناصر الإصلاح.

وقد كانت المعاهد تحقق نتائج باهرة، و”كانت مناهجها حصيلة دراسة علمية لأفضل كفاءات وأكاديميي اليمن بشكل علمي ومنهجي” كما كان يُقال. وكان أول ظهور لهذه المعاهد في السبعينيات، ثم تطورت وتعدّدت الحاجة إليها حتى تجاوز عددها 700 معهد. ولم يخمد الخلاف حولها، فهو يؤرخ لحقبات الصراع الثقافي والسياسي في تاريخ اليمن، فكلما نشب صراع مع الإسلاميين، تعلو الأصوات المنادية إلى إلغاء المعاهد العلمية وتوحيد التعليم!، وعندما تكون العلاقة معهم علاقة تحالف تنتعش المعاهد وتتمدّد. فقد كان لقادة الإصلاح بُعد نظر في المسألة التعليمية فاقوا أقرانهم في الوطن العربي.

وقد حققوا بها مكاسب مجتمعية، ما كانت تُجنى بدونها، وتطوّر الأمر إلى تأسيس الجامعات: جامعة الإيمان، وجامعة التكنولوجيا.

دخلت إلى صنعاء في صيف 1994، ومما علمته بالمعايشة بعد ذلك أنه لا يوجد طقس لطيف كطقس صنعاء

استقبلني الصديق محسن الحمدوني في مطار صنعاء، لم تكن لي خبرة كبيرة بالمطارات، إذ لم أتنقّل عبر الطائرة قبلها إلا مرة واحدة، وكانت إلى الخرطوم عبر عمّان. ولكن يمكنني المقارنة بين مطار بيروت، وصنعاء، وعمّان الذي بقيت فيه قليلا، ومطار الخرطوم. كان المطار صغيرا، وتجهيزاته تشير إلى تواضع إمكانيات الدولة، أو قلّة اهتمامها به لقلّة فوائده.

دخلت إلى صنعاء في صيف 1994، ومما علمته بالمعايشة بعد ذلك أنه لا يوجد طقس لطيف كطقس صنعاء، فلا أتذكّر أنها تجاوزت الأربعين درجة في الصيف، ولم تنزل تحت العشرة في الشتاء. فلا حرارة شديدة تناطح الستين كما كانت في صحرائنا، ولا هي تغوص تحت الأصفار كتلك التي نواجهها في شتاء النرويج. فهو طقس معتدل، طبعا على نقيض بعض مناطق اليمن كالحديدة التي أقام فيها بعض التونسيين، فهي قطعة من نار في الصيف كما نُقل عنهم، ولم أحظ بزيارتها. وأدركت من خلال المعايشة صدق الشعراء، فقد قال الشاعر عبد العزيز المقالح في مناخ صنعاء:

في الشتاءات صحوٌ أليفُ

وفي الصيف قيظٌ خفيف..

حملت حقائبي، وتوجّه بي محسن إلى البيت الذي سأقيم فيه مؤقتا، لم أفكّر سابقا في مواصفات هذا البيت، فهو بالضرورة سيكون مؤقتا لشهرين أو ثلاثة على أقصى تقدير، حتى تلتحق زوجتي بي، وعندها سنتخيّر ما يناسبنا. وقفنا أمام باب كبير، تآكل لونه الأزرق، ويرتفع عن الأرض تقريبا نصف متر، شارعه ترابي لم يبلغه الاسفلت بعد، ثم دخلنا من باب خلفي صغير، فكان شبيه (كراج)، لم أعر المسألة اهتماما كبيرا، فمن هو في وضعنا لا يحق له الاشتراط، ولم يكن الاشتراط من طبعنا أصلا، فمناماتنا في الصيف كانت على كثبان الرمال، وفي بهو البيوت المفتوحة، وأسطحها الممزوجة بسعف الجريد والتراب وطبقة من جبس (الرشاد). وقد منحنا ناموس صبرا مناعة جعلتنا لا نفكّر إلا في المأمن، وما بقي فهي تحسينيات، تركناها وراءنا، واخشوشنوا فإن النِّعم لا تدوم. تلك المقولة التي تربّينا عليها، وكانت زادنا في كل المضايق.

من تلك المقدمات أدركت أننا قادمون على مرحلة جديدة من شد الأحزمة. ونسينا فيها طراوة ونعومة النوم على الأسرّة، والجلوس على الأرائك، وعلينا باستجماع ودعوة ما تم تخزينه في الذاكرة من أيام الشدّة. فبدأنا بتهيئة النفس لنستوطن مقامات الزهاد، وربما نتجاوزها في بعض مظاهر الخشونة التي ستُضرب علينا قهرا.

وعلينا من اليوم نسيان الرُّخص والتدثّر بالعزائم، ونسيان التحسينيات وأحيانا حتى الحاجيات إلى البقاء في دائرة الضرورات، حتى نتجاوز هذه المرحلة بسلام!

تركنا الحقائب وأخذني محسن إلى مطعم سمك، اختار سمكة كبيرة، وظننت أننا سنأخذها إلى البيت، واختار لنا طاولة، وكانت كل الطاولات خشبية، والكراسي حديدية تآكلت هي أيضا ألوانها، وبان عظمها، وكأن سمة تآكل الألوان القاسم المشترك في صنعاء!، وطلب كأس شاي. بعد ما يقارب ثلث ساعة تقريبا أو أكثر بقليل، جاء النادل ووضع طبقة من البلاستيك الخفيف ووضع فوقه طبق السمك المشوي، وقليل من الخبز، وقِطع ليمون نثرها فوق صحن سَلطة. صدقا لم أذق مثل طعم هذا السمك سابقا، وقد كان طعم السمك اليمني المشوي من ألذ ما تأكل، وتداخلت في ذهني الصور والهواجس بين مقام في (الكراج) وما يوحيه من ضنك الحياة، وما تحمله صورة السمك المشوي من رفاهية ويُسر. واستمتعت أيادينا قبل بطوننا بذلك السمك، واستعنا بقليل من الليمون لغسلها.

تجوّلنا بعد الغداء قليلا وعُدنا إلى البيت، ووجدنا مرافقنا قد حلّ ركبه. ذكر لي محسن ونحن في الطريق تعريفا سريعا بمضيفي في بيته، فقلت بما أنه خرّيج فلسفة فهي بشرى خير، وبما أنه أيضا من أبناء الأرياف الذين عركتهم الحياة، وأكملت عليهم الغربة، فذلك هو المطلوب، وأبواب التجاوب ستفتح فضلها، وسنتلائم إن شاء الله. كان صاحبنا نحيلا نوعا ما، نتشارك في السّمرة، ونتقارب في الطول، وبصوته وجع، كوجع كل مغترب.

أكمل عبدالحفيظ العبدلي دراسته في المغرب شعبة الفلسفة، والتحق باليمن بحثا عن الرزق، ولكنّه لم يركن إلى صنعاء منذ قدومه، وهمّه هو فتح نافذة في جدار الغربة، ليُطلّ به على أفق استكمال أشواط الدراسة، والتي تحقّقت له لاحقا في ماليزيا. كان عبدالحفيظ من أطيب من عاشرت في اليمن، صاحب خلق سمح، ودود وصاحب فضل، وما زال القلب يحمل له كل الود والتقدير، وزرته في مقامه الجديد في سويسرا لاحقا.

كان محسن صاحب فضل كبير على من قدِم إلى صنعاء في تلك الفترة، كان هو بوّابتنا الأولى، حتى لأولئك الذين انتدبتهم الجامعة. وكان عوننا في كل تلك المرحلة. واستبطن محسن السلوك اليمني، فلم تعد تجد فوارق بينه وبينهم، ووجدنا فيه خير معين وسند، وزاده (القات) مسحة يمنية أزالت منه سمته التونسي.

 

المصدر : الجزيرة مباشر