تكفير الموتى .. بدعة إسلاميين صارت قاعدة!

  مع تداعي موجات اليأس والإحباط إلى نفوس بعض الإسلاميين الذين لم تلمس حقيقة وجوهر الدين شغاف قلوبهم، وبالتالي اعتادوا التسليم بأنهم منصورون في الحياة الدنيا والآخرة؛ وكأنهم والعياذ بالله أبناء الله أو أحباؤه، فكلما رأى هؤلاء انتقالهم من فشل إلى آخر طلبوا التعويض عن تراجعهم في تحقيق حلم الثورة في بلدانهم؛ وبالتالي فشلهم في الدنيا بالتخبط والزعم بأن أعداءهم في المواقف والأفكار؛ أو حتى الواقفين منهم على الحياد سيتلظون في نار جهنم ويتقلبون في عنفوانها إلى ما شاء الله نتيجة تقصيرهم في نصرة الحق الواجبة.

   وهكذا ومنذ سنوات تجاوزت أصابع اليد الواحدة إلى ما قبل منتصف الثانية؛ صارت مواسم الصخب والضجيج بل الفحيح تتجدد بوفاة أيٍّ كان علا شأن فعله أو فكره أم تواضع؛ لكن انتشر شبه الإجماع الخفي لدى هؤلاء من بعض فشلة الدنيا بأنه من الواجب إدخال الراحلين من مخالفيهم أو حتى غير مناصريهم  إلى جهنم الآخرة .. ليعوضوا أنفسهم عما فقدوه من القدرة على منازلة ومصارعة الحياة بإحسان التفكير وبالتالي العمل والإعداد لمعارك بديلة عن تلك التي يقودونها بخسارة مرة بعد أخرى.

   ويقصر فهم وإدراك هؤلاء عن الوصول إلى بدايات التفكر في أحوالهم، ومجرد ملاحظة أنه حتى المواسم التي يشنون فيها هجومًا على مُتوفى لا يملكونها ولا يحددونها؛ وإنما تاتي في ميعاد وقدر إلهي محتوم، بعد لحظة مريرة لخروج الروح لن ينجو منها أحدهم ولو كان أصلح الصالحين؛ وحاشا للذين يُنصبون أنفسهم حكامًا وقضاة على البشر أن يكونوا كذلك؛ إذ إنهم لا يفكرون في أنهم سيذهبون إلى حيث يعيبون على الآخرين وسيعانون آلامهم .. ثم لا يجزم أحدهم من أمر نفسه بشيء أإلى جنة أم جحيم يصير؟ ويكفيه أن موعد هجومه وتكفيره للأموات لا يملكه وإنما يأتي بإرادة عليا سامقة سامية؛ وفي كل مرة يبتلع هؤلاء الطعم وينبرون في تعديد المسالب والصفات الأخلاقية السلبية لفقيد لا يرضون عنه.

هيكل

  لم ينج من الأمر كُتَّاب وصحفيون أبرزهم (محمد حسنين هيكل) وهو كاتب صحفي ناصر نظامين مصريين ضد تيار إسلامي وفصيل سياسي؛ وبين النظامين أكثر من 60 عامًا كانت كافية لإفهام قيادات التيار والفصيل أن الأمور الخاصة بالعباد بينهم وبين خالقهم؛ وأن أمور الدنيا وأولها السياسة تحتاج إلى إعداد وفهم وصبر وكوادر يُقصرُ فيها الذين كان شعارهم “وأعدوا لهم  .. “، من الآية 60 من سورة الأنفال، ويبدو أنهم نسو شعارهم أو تناسوه في حملات التغيير المواكبة للانتخابات البرلمانية مرة بالإسلام هو الحل، والرئاسية أخرى بنحمل الخير لمصر، ولم تكن المشكلة في الشعارات أو المشاحنة وإنما في سيئ الاستدلال بها؛ ولم ينج من ألسنة هؤلاء عالم نال نوبل؛ وإن أخطأ في موقف يخص زيارة للعدو الصهيوني؛ ولم يثبت عليه ولم يكن من تخصصه أو فهمه تطوير صواريخ له؛ والرجل الراحل في نهاية المطاف طلب من المصريين الدعاء له وأمره لخالقه في النهاية الذي عاد إليه في النهاية؛ كما لم يسلم من الظاهرة فنانون وممثلون مالوا إلى النظام الحالي ضد الثورة العربية والثوار في الكنانة أو غيرها؛ وأُضيفَ إليهم بعض مفكرين خالفوا ثوابت منطقية في الدين وانطلقوا منها لمفاهيم مغايرة لما يراه أغلب أهل السُّنة والجماعة؛ ووصل الأمر ببعض هؤلاء الراحلين لتسفيه فكر الثورة أو بعض أصحابها.

  وامتد الأمر سريان النار في الحطب أو كثير الهشيم حتى ليصل إلى والد فنان ساهم في أغنية لمؤازرة نظام كالمصري الحالي في بداية استوائه على سوق الحكم؛ وزادت الشماتة عن الحد لتتعدى المغني إلى أبيه لإنه لفظ أنفاسه محترقًا ونسي هؤلاء أو تناسوا الآية: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” 18 من سورة فاطر، وتمادى هؤلاء في خيباتهم وانتصاراتهم المزيفة حتى طالتْ نارهم مؤخرًا حاكمُا خليجيًا لوقوفه على الحياد من ثورتهم، اتفقنا مع بعض مواقفه أم لم نتفق.

  ومن المُسلم به والمفروغ منه أن من حق هؤلاء المنتقدين للمُوتى، كما أنه من حق غيرهم التعرض لمواقف وإبداع ومفاهيم وكتابات وأعمال الراحلين أيًّا مَنْ كانوا .. شريطة أن يكون النقد بل التفنيد للأقوال والأعمال محصورًا عليهما؛ وألّا يتجاوزهما إلى الأهل والدوائر المقربة أو الشخصنة والسّب المُنافي لحرمة الميت وبالتالي الجزم بمصيره في الآخرة مما لا يملكه أحدهم لنفسه!

   على أن الأمور تدور في الواقع بشكل بعيد عن قواعد الدين الحنيف والعقل والمنطق، وكلما ازدادت المحنة على قصار عقول كلما أوغلوا في انتظار ما يعتقدون أنه “سقوط” لمخالف أو عدو لهم؛ أو حتى واقف منهم موقفًا حياديًا؛ ومن أطرف الأمور في هذا المجال أن داعية إسكندرانيًا تفتح وعي أجيال على شرائطه الكاسيت المُنظمة لآداب المهن في الإسلام وأخلاق أصحابها تردى مؤخرًا في هذه الحفرة وتلك التهلكة .. حتى ليحسب المدقق في أقواله أن عمره الافتراضي كداعية مضى وتركه؛ وإن عليه أن يصمت، ولم يصمت الداعية، الذي لم يكن مُفترضًا أن يقع في مثل هذه الحفر، وفي معسكر للشباب من دور وسن أحفاده عقب وفاة عالم نوبل راح الداعية يصفه وينعته بـ”الفاجر الكافر”، فلما تصدى له أحد الشباب الصغير الفاهم الواعي متسائلًا: كيف تكفره وهو لدى ربه؟ قال العالم الذي يفتخر بأنه لايتكلم إلا بالقرآن الكريم والسنة النبوية أمام كل مخالف وإن جاء فهمه على طريقة بيت أبي الطيب المتنبي، رحمه الله:

   وكم من عائب قولًا صحيحًا .. وآفته من الفهم السقم!

   فالعيب في فهم الداعية أحيانًا ليس أكثر؛ أجاب الداعية على السائل بما يدير الرؤس وينزع الأفهام من الأدمغة إذ قال الرجل: لإنه مات ولم يتب، ولم يقل لنا أحدٌ بأنه تاب أكفره! وتناسى العالم أن التوبة لا تكون إلا بين العبد وربه، فلا يلزم أن يجهر بها العالم الراحل أمام ميكرفون أو شاشة فضائية أو موقعًا إليكترونيًا ليصل للسيد عالم الدين .. الذي يظن نفسه وصيًا على خلق الله بعد أن انتقلوا من شرور الأرض لجوار رب أدرى وأعلم بالسر وأخفى؛ وإن كان طلب العالم من الشعب الدعاء له فبل وفاته إعلان انتماء كافٍ لرد العباد!

   أما الطرفة الخطيرة والمفارقة المريرة فهي أن السيد العالم المنسوب للدين نفسه تصدى لاحقًا إلى ساسة أحياء خارج القارة المقيم فيها، ملاحقًا من سلطات بلده، إلى قارة أخرى تقع فيها بلده وبلد آخر استضافته في 2012م، بعد نجاح ثورتهم ليشرحوا له في “الغرف المُغلقة” موقفهم من التدرج ومحاباة الفسدة اتقاءً لشرورهم؛ فما كان من العالم الفاضل إلا أن خرج إلى العلن بعد عودته لبلده حينها قائلًا ما قيل له في السر؛ فلما كرر الأمر وعلا به إلى تخوين الحي وتكفير حاكم راحل في ذلك البلد الأمّ للثورات العربية احتجت خارجيته لدى الخارجية التي يقيم بها الداعية فَمُنِعَ من الكلام العام نهائيًا؛ وكأن سبّه الأموات من قبل كان يدخله في دائرة أنه في مأمن من ملاحقتهم له جنائيًا وبالتالي إصماته؛ وهل يستطيع ميت الاعتراض أو رفع قضية تشهير، أو استدعاء سفير لإسكات حيّ سبّه!

   يجري الأمر إذًا في إطار انتهاز الفرص بما يضاد ويعارض جوهر الإسلام العظيم؛ ولا يرضي رب العباد عن خوضهم باسم الشرع وذمة الميت ودينه؛ فضلأً  عن تألههم وتكبرهم  وتدخلهم في شأن وأمر من شؤون وأمور السيادة والعزة الإلهية؛ والنصوص في ذلك كثيرة أبرزها قصة ذلك العابد الذي يأس من ظلم رجل مجرم عاش في زمنه فقال عنه: والله لا يغفر الله لفلان، فرد الله عليه: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ إِني قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملك والحديث القدسي رواه مسلم.

   وأين من الداعية والفريق المناصر له في بعض القنوات، وأحيانًا المواقع، وغالبًا مواقع التواصل بأسماء مستعارة أو مُعلنة إن أمن بعضهم الفتنة ومساءلة أتباع وعصافير الحكام الطغاة؛ فيناصبون رب السماوات والأرض في علاه الحكم على عباده، بل ينفردون به من دونه وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف: “لا تسبّوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدّموا” (رواه البخاري)،والدلالة واضحة في أن الميت صار إلى الله لا تغنيه ولاتؤثر فيه كلمات لحي.

   أما المشرك الذي نطق بالشهادتين أمام فشله وهزيمته في مبارزة حِبّ الرسول، صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، رضي الله عنه، فنطق بالشهادتين لمّا أيقن بالموت؛ وكان منذ هنيهة يقاتل ليقتل الصحابي أسامة؛ فقتله الأخير فاشتد الرسول العظيم في لومه ورفض عذره، والحديث مُتفقٌ عليه، وقيل إن الرسول العظيم ألزم الصحابي أسامة بدفع ديّة القتل الخطأ لأهل المقتول.

  تخص الواقعة الأخيرة رجلًا نطق بالشهادتين لأول مرة طلبًا للنجاة من السيف؛ فكيف يقبل ضمير هؤلاء تسفيه وتفسيق وتكفير رجال عاشوا مسلمين ولم ينطقوا بكلمة الكفر .. وإن اختلفنا معهم أو اتفقنا في بعض مواقفهم، ولا ندري ماذا يفعل الله بنا أو بهم وقد صاروا في رحمته وظلال ملكه.

   متى يفيق هؤلاء المُسيئون للثورة والدين معًا، فيحسنون العمل ويخلصون النيّة لنهضة بلدانهم وتحريرها من الطغاة وبالتالي إعادة إعمارها بالعدل؛ بدلًا من انتظار وفاة بعض البشر ليظلموهم ويتهموهم بدخول النار، فيما لا شأن لهم ولا حكم به إلا الظلم والتهور والافتئات البشري في أبشع صوره على مَنْ لا يستطيع ردًا أو توضيحًا للحقائق أودفاعًا عن النفس!  

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه