كيف نفهم مقاطع الاحتلال الموجهة إلى العرب والمسلمين؟

ليس الاحتلال احتلالاً. لعلها الرسالة المركزية التي تسعى إلى تثبيتها مقاطع ترويجية تدفع بها دعاية الاحتلال إلى العرب والمسلمين. يظهر الاحتلال في هذه المواد المرئية في قالب إنساني ودود يحترم الثقافة العربية والدين الإسلامي إلى أقصى حدّ ويشي بحسن الجوار. تركِّز هذه المقاطع على منح إيحاءات الوجود الأبدي في المنطقة مع “الجيران العرب”، مع استبعاد ما يشير إلى واقع الاحتلال والعدوان والنكبة والاستيطان والفصل العنصري (الأبارتايد) والعنف البنيوي ومظاهر الاضطهاد المسلّطة على الشعب الفلسطيني.

تحقق مقاطع الاحتلال المرئية الموجّهة إلى العرب والمسلمين انتشاراً واسع النطاق لانطوائها على ما تبدو مفارقات واستثناءات ومفاجآت بما يجعلها مادة مثالية للتدوير في المنصات والتطبيقات مصحوبة بالاستغراب والاستهجان. على هذا المنوال تحقِّق هذه المقاطع حضورها الجماهيري بتفاعُل مَن يرفضونها، وهو ما يفرض تنمية الوعي بمبدأ نشر هذه المقاطع أو تبادلها حتى من باب استنكارها. فتعميم هذه المقاطع وما يشبهها في المنصّات ومواقع التواصل يخدم دعاية الاحتلال، وإنْ كانت نيّة القائمين بذلك طيِّبة أو محايدة.

في هذه المقاطع ما تبدو غرائب ومتناقضات ومشاهد استثنائية بما يُتيح تبادلها ونشرها من قبل جمهور يناوئ الاحتلال مبدئياً. من شأن هذا أن يُفسِّر، مثلاً، لماذا يظهر الناطق باسم جيش الاحتلال بالعربية ليتحدّث في هيئة واعظ مسلم أو حامل مسبحة أو يجترئ على إصدار فتاوى و”إحالات شرعية” إلى علماء مسلمين معروفين؛ فهذا يتيح لهذه المقاطع الدعائية تمدّداً جماهيرياً مذهلاً.

كما تشتمل هذه المقاطع على ما يراهن على إرباك وعي الجمهور الذي تتوجّه إليه بإدراج عناصر مفاجئة لمُدرَكاته وهي بمثابة محاولة لزعزعة موثوقية القناعات الراسخة في الوعي الجمعي.

“براهين مرئية”

تلجأ دعاية الاحتلال إلى إبراز مؤسساته ومرافقه ذات المنحى الاستشراقي وتُساق “برهاناً مرئياً” على الفكرة المركزية التي تتحرّى أنسنة الاحتلال وتقريبه إلى وجدان العرب والمسلمين. يتمّ استعمال ما يسمى “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” في هذا المسعى بوضوح، إلى جانب مرافق أخرى، فهي تشتمل على “مجموعة إسلامية” وبضمنها مخطوطات عربية وإسلامية ومصاحف تاريخية. يُتيح مقطع دعائي عن المكتبة الدخول إلى أروقتها مع موسيقى عربية، بما يُرجى منه تعظيم المفعول الوجداني.

وإن كان على المكتبات التاريخية أن تعتني بمقتنياتها أقصى العناية؛ فإنّ خصوصية هذه الحالة في تقديم مسلك العناية بالمصاحف المخطوطة هي “نعتني بمقدساتكم”، وهي رسالة مكرّسة لطمس لسان الحال: “نحتلّ مقدّساتكم وندنِّسها ونهدِّدها”.

لا تخرج هذه المنشأة الثقافية في خطابها الدعائي عن الخط الرسمي لكيان الاحتلال، فالمسؤولة الإسرائيلية في المكتبة تتحدث عن مقتنيات من أقاصي الأرض تعود إلى قرون خلت، وتتجاهل هوية البقعة التي تقف عليها (فلسطين)، فهي تمنح جمهور المشاهدين انطباعاً بالعناية بالتاريخ لكنها تنكره في الوقت ذاته.

تحاول مكتبة الاحتلال إظهار رسوخها من خلال إظهار أنّ تأسيسها سبق النكبة؛ ولا تشير إلى أنّ عصارة عمليات السطو على المكتبات الفلسطينية العامة والوقفية والخاصة تجمّعت فيها؛ ومن بينها مخطوطات أثرية وكتب نفيسة. فهذه المكتبة تضخّمت على أنقاض فلسطين ومكتباتها بما يخدش الصورة الدعائية المضلِّلة.

لا يقتصر المنحى الدعائي على مقطع ترويجي مخصوص، فهذه المكتبة الاحتلالية حرصت في السنوات الأخيرة على اجتذاب صحفيين لإنجاز تغطيات دعائية. تبدو قناة “الحرة” الأمريكية الموجّهة إلى العرب ضالعة بوضوح في هذا المسعى من خلال إنجاز تقارير مصوّرة عن المقتنيات العربية والإسلامية في مكتبة الاحتلال، وعن ما يسمى “المتحف الإسلامي الإسرائيلي”، وغير ذلك، مع تحاشي الإشارات المهنية الناقدة.

تمور الاحتلال تخاطب العرب!

تكتسب مقاطع الاحتلال الموجّهة إلى الجمهور العربي خصوصية إضافية إنْ ارتبطت بقطاعات إنتاجية، فتأتي لخدمة التمدّد في الأسواق العربية وتجاوز حواجز المقاطعة، علاوة على التوظيف الدعائي لما تُقدّم في هيئة نجاحات إنتاجية وتقنية وكأنّ “التقدّم” يمنح المشروعية للاحتلال والانتهاكات، وهذه من تعبيرات الداروينية الاجتماعية.

يَبرُز في هذا المجال مقطع موجّه إلى العرب عن إنتاج الاحتلال من التمور الفاخرة، مع حضور مزارع النخيل ومعامل التعبئة الحديثة وخطوط الإنتاج فيها. يستعمل المقطع في مؤثِّراته موسيقى شرقية لتمكين المادة المرئية من وجدان الجمهور العربي، وإظهار الاحتلال قريباً ومحبّباً بما يتخطّى الحواجز النفسية.

يتعمّد المقطع إظهار عمال فلسطينيين لزعزعة التصوّرات عن الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري”الأبارتايد”، ويستنطق بعضهم للحديث عن ظروف عمل “مميّزة” في مصنع تعبئة التمور والثناء على فرص يتيحها لهم في كسب الرزق. يُراد من هذا إضعاف رسائل المقاطعة التي تؤكِّد واقع الفصل العنصري القائم، وأنها ستعود بأضرار على معيشة الفلسطينيين أيضاً. لا ينفكّ هذا الإقحام المفتعل عن جهود الاحتلال الترويجية التي صارت تُظهِر “عمّالاً عرباً يعملون في وئام مع عمال يهود” في مرافق الاحتلال والاستيطان الإنتاجية، كما يأتي في حملات ترويجية تقوم بها شركة “صودا ستريم” الإسرائيلية في أوربا بعد تصاعد حملات المقاطعة التي تستهدفها. تحاشت هذه الشركة سابقاً الإفصاح الواضح عن منشئها، ثم وضعت علم الاحتلال على صناديقها مع عبارات اشتغال “عرب ويهود معاً” في خطوط الإنتاج.

أمّا مقطع التمور الموجّه إلى العرب فيحاول إظهار الاحتلال في ثوب نجاح اقتصادي وزراعي وبيئي متعدِّد المستويات، بما ينشد تأثيرات إيجابية على الصورة الذهنية المتعلقة بالاحتلال. ويبقى أنّ التمر مُنتَج مرغوب للجمهور العربي والمسلم، فكيف إن كُرِّس المقطع لترويج صنف فاخر اشتهرت به مزارع الاحتلال المسلوبة من الشعب الفلسطيني؟! إنّ ترميز الاحتلال انطباعياً بالتمر الفاخر يبدو ملائماً لدى التوجّه إلى العالم العربي والإسلامي، وله أن يأتي على منوال ترميز الاحتلال في أوربا والعالم خلال القرن الماضي ببرتقالة يافا الشهيرة عالمياً، باستغلال القيمة المعنوية للثمرة أو المُنتج لدى جمهور معيّن في زيادة القيمة المعنوية لكيان الاحتلال الذي سطا على الأرض. ما يزيد من تأثير المقطع المشار إليه؛ قيمة نخيل التمر بما تمثِّله في الوجدان الجمعي للعرب والمسلمين، بصفتها شجرة مباركة ومرتبطة بالوعي الديني أيضاً، وهي تُقدّم في هذا السياق على أنها “إسرائيلية”. يُلاحَظ في هذا المنحى أنّ لهذا الصنف سوقاً رائجة في تركيا مثلاً تعرضه المتاجر تحت اسم “تمر القدس” إلى جانب “تمر المدينة” و”تمر بغداد” و”تمر تونس”!.

إنّ اجتراء الاحتلال على الترويج الدعائي المصوّر لإنتاجه المتعاظم من التمور يبدو طوْراَ جديداً بعد إمعانه في مسالك طمْس المنشأ ومحاولة تبييض منتجاته عبر مسالك التفافية متعدِّدة لا تظهر معها حقيقة الشركات أو المستوطنات التي أنتجتها. لهذا صلة بمنحى التطبيع المفروض سلطوياً في المنطقة بما يستشرفه من فتح الأسواق، وبالزيادة المطردة من التمور التي ينتجها الاحتلال مع انخفاض متزايد في تكاليفها الإنتاجية.

يتعامى الترويج الدعائي المصوّر الموجّه إلى العرب والمسلمين بشأن التمور، وغيرها من قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي، بقصد، عن حقيقة أنّ الأراضي والمياه والموارد الأساسية اللازمة لهذه العمليات الإنتاجية مسلوبة من الشعب الفلسطيني. أمّا تشغيل عمّال فلسطينيين في هذه المرافق الإنتاجية فهو برهان على طبيعة النظام الاستعماري الذي يسلب الأرض من أهلها ثم يدفعهم إلى العمل كأجراء مقابل أجور زهيدة بموجب العلاقة الاستغلالية القائمة. إنّ عمل فلسطينيين في المستوطنات تعبير جسيم عن واقع سلب الموارد ممّن تَصادر أراضيهم وعن خنق فرص نهوض اقتصاد وطنيّ مستقل لشعب واقع تحت الاحتلال. أي أنّ هذا التشغيل الذي تحرص السردية الدعائية المصوّرة على التباهي به هو مثال جسيم على منطق استعماري تسخيري لا يجعل لقطاعات من شعب مسلوب السيادة من خيار سوى خدمة اقتصاد المحتلِّين.

إعادة تعريف شرطة الاحتلال

يسعى الاحتلال إلى إعادة تعريف قواته من الجيش والشرطة وتقديمها في أثواب دعائية موجّهة للجمهور العربي والمسلم. يأتي في هذا مثلاً؛ مقطع مرئي تظهر فيه إجراءات تجنيد فلسطينيات في شرطة الاحتلال العاملة في القدس، وتروِّجه منصّات الاحتلال الدعائية للعرب والمسلمين.

يعرض المقطع “إنجازات” تزعمها شرطة الاحتلال في هذا التجنيد ويتخطّى الإشارة إلى حالة الرفض والنبذ التي تواجهها هذه الشرطة في المجتمع المقدسي. يتجاهل المقطع الحالة العامة ويركِّز على استثناء يتجاوز موقف الامتناع عن العمل في سلك شرطة الاحتلال.

يعرض المقطع حفلاً جمع المجنّدات على مرأى من التصوير الدعائي، وهو ما يشي باستثنائية الحالة بما اقتضى من دعاية الاحتلال تضخيم الوعي بها، ويتّضح هذا في سلوك الكاميرا التي تحرّت الاستثناء ضمن الاستثناء؛ فتوقّفت عند من تستر شعرها من المجنّدات.

وإذ تحاول دعاية الاحتلال تقديم صورة مزيفة عن الفلسطينية وكأنها تنخرط في صفوفه؛ فإنها تطمس مشاهد جماهير الفلسطينيات اللواتي يتصدّين لقواته في الميدان المقدسي وخارجه، ويرفضن قراراته ويَخُضْن نضالات متواصلة. تختلق مقاطع دعائية كهذا عالماً معزولاً عن واقع مرئي في القدس، بما في ذلك صمود الفلسطينيات في الخان الأحمر وعدم رضوخهن لتهديدات الاحتلال بإخلاء الموقع بما اقتضى سحلهنّ والتنكيل بهنّ.

تحاول دعاية الاحتلال بهذا المقطع وما يشبهه أن تصوُّر هذا التجنيد على أنه من شواهد “المساواة”، لكنه من تجلِّيات الاستخدام والاستعمال والاختراق الذي اعتادت أنظمة الاحتلال والاستعمار ممارسته مع الشعوب المضطهدة. لم تعجز أنظمة الاحتلال والاستعمار عن اقتناص بعض أبناء الشعوب مسلوبة السيادة ليعملوا في صفوف قواتها، دون أن يكسبها ذلك الشرعية أو يجعلها علامة قبول شعبي بالاحتلال. وقد استعصى الشعب الفلسطيني على محاولات كسر الإجماع الشعبي والمجتمعي في الاستعمال ضمن أجهزة الاحتلال رغم كل ما أحرزه الاحتلال في هذا الشأن حتى الآن. ويبقى التحدي قائماً، لأنّ عيْش الفرد تحت سلطة احتلال بأجهزتها ومؤسساتها ومع الصعوبات المعيشية، يجعله مكشوفاً لمحاولة استعماله، بما يمكِّن السلطة الاحتلالية من اقتناص أفراد من الحالات المعزولة مجتمعياً.

أقدمت قيادة الاحتلال في المقطع المرئي عيْنه على استعراض دعائي على أعلى مستوى، بحضور رئيس كيان الاحتلال ذاته، للتباهي بمساعيها المحمومة لتجنيد “عربيات”، وهو ما يقتضي حذراً واحتراساً من هذه الهجمة وفضح أساليبها ومراميها ومقاومتها بخبرات الفلسطينيات والفلسطينيين المتراكمة في مناوأة الاحتلال والتصدي له. فالاحتلال يحاول بدأب تجنيد العربيات في صفوفه من فلسطينيي 48 وشرق القدس لتحقيق مكاسب عدة معلوماتية وعملية وميدانية ونفسية ودعائية؛ ولإيجاد اختراق لتطبيع الحسّ العام، مع استغلال الانطباع بأنّ الشرطة “جهاز مدني” لتسويغ هذا التوظيف.

تضليل مصور في المناسبات الإسلامية

من بين المقاطع المرئية التي تستهدف بها دعاية الاحتلال العرب والمسلمين مكانة خاصة لمقاطع التهاني المضللة التي تبعث بها قيادات الاحتلال والناطقون باسمه في المناسبات الإسلامية. يحاول هؤلاء تجريب وسائل دعائية ساذجة تفترض أنها ستكسب العقول والقلوب بمجرد إلقاء نصوص مشفوعة بابتسامات، وكأنها تتوجه إلى جمهور من فاقدي الذاكرة. وفحوى دعاية التهاني المضللة هذه: لا تصدقوا الحقائق فنحن طيبون حقاً. لكنّ هذه التهاني والمقاطع تواجه معضلتها الجوهرية مع المصداقية الغائبة عنها.

تسعى هذه الرسائل المصوّرة إلى إرباك وعي الجمهور العربي والمسلم من خلال رسائل محدّدة، لتوفير أرضية نفسية وذهنية لمزاعم الاحتلال التقليدية؛ بأنه ليس ضد العرب والمسلمين بل ضد فئات محددة منهم، وأنه يحترم دينهم وثقافتهم و”طقوسهم”، دون أن يقدم براهين عملية بين يدي ذلك سوى الافتعال المصوّر.

ومن خلال مراوغات لفظية في هذه المقاطع يتم إبراز “عدوّ مشترك”، وإعطاء انطباع مضلل عن الاحتلال من خلال إشارات عن “التعايش”، مثلاً من خلال إظهار مجندين في جيش الاحتلال وهم يتحدثون العربية. يُقابل الجمهور العربي هذه المقاطع عادة باستهجان وتندُّر وسخرية، وهو ما يحرِّض على تبادلها ويمكِّن لها من الانتشار الواسع نسبياً.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه