التفاهم الاضطراري بين العصابة والفقيه [الشيخ د. البوطي نموذجاً].

الشيخ البوطي

 

 

لو وضعت في وعاء خمسين نملة سوداء وخمسين حمراء سيبقى الاستقرار هو السيّد، لكن إذا هززت الوعاء بعنف سيتقاتل الفريقان حتماً، حيث يعتقد النمل الأحمر أن الأسود هو العدو، بينما يعتقد الفريق الأسود أن الأحمر هو العدو، بينما العدو الحقيقي هو الشخص الذي حاصر المجموعتين وهزّ الوعاء وهذا ما ينطبق على إدارة المجتمع السوري سياسياً في وقتنا الراهن!

قبل أن تخاصم يجب أن تسأل نفسك من هزّ الوعاء؟

هناك طوائف تفرقت وأصبحوا أعداء، وقوميات تناحرت وأصدقاء تقاتلوا وهناك أزواج تطلقوا وهناك أخوة نفروا وتباعدوا، كل هذا بسبب جهة ما تنتهج سياسة هزّ الوعاء بخبث ودهاء ومكر بهدف تحقيق الاستخراب الاجتماعي لا الاستقرار، مستخدمة كافة طرق الإلهاء والتشويه والافتراءات لتحقيق غاية سياسية للسلطة العابثة!

ولا شك بدأت اليوم تتجلّى معالم الرؤية السياسية والاجتماعية التي حذّر الشيخ البوطي من عواقبها منذ بداية إدارة المطالب الشعبية لصالح المجرم السياسي، فأصبح واضحاً أنّ الواقع السوري اليوم يدار بيد شقية وعقلية تحترف الإجرام المنظّم وزراعة الوهم والحقد بين المكونات السورية ليتم تنظيم اضطرابها في استهداف الهوية السورية.

إن المحافظة على الذات السورية المعافاة يعد فريضة لا يصح قبلها أي فرض، وقد ضربنا المثل بنمل ولكن من هز الوعاء أفعى مجرم والمتقاتلون أبرياء صاروا بيادق مأمورة وبنادق مأجورة، وتحولوا إلى ما يمكن تسميته بفيلسوف الشقاق وسوء الأخلاق، حيث إن تسييد البعد الواحد والرؤية القاصرة تمنع الحكم المنصف وتغلب التقييم الفاسد ولغة الاصطفاء الذاتي والعقل الصفري.

ليس صحيحاً أن العالم هو قرية بل بات أشبه بشقة صغيرة، تدار بيد شقية وعقلية محترفة، تزرع الوهم والحقد والتمييز، وربما ذلك الساعد المشغل منح صغار العقول منابر لها كلمة، ومناظير لها رؤية، ومناقير لها أذية.

الأنا المتورمة

وكان كل دور هؤلاء الصغار (الجلبة) و(التشاغب) الذي يمنع السكن، ويحول دون سكينة سكان الشقة الواحدة، ومن أهم اشتغالات الكبار [توظيف الصغار وشغلهم ببعضهم البعض وضرب الكل بالكل]

وكان من أهم الاستراتيجيات المتبعة سياسياً في تحقيق هذا التخبط الاجتماعي إسقاط الرموز الدينية وغير الدينية شريطة أن تكون عاقلة وفاعلة اجتماعياً من خلال الأحكام المعلبة والأحادية وبروز الأنا.

[الأنا المتورمة] مرض أدى إلى تهتك صفوفنا بسببه، وكون لنا الكثير من الأعداء، إنه مرض اللون الواحد، حيث ننسف القرابات وندمر العلاقات فلا إنصاف..

كان المراد سياسيا أن تكون سوريا غير قادرة على أي خطوة مستقبلية وفي سبيل ذلك يجب أن يتحول الدين إلى سكين والقومية إلى منصة تشهير والطائفة إلى هوية حدية، والمجتمع إلى خنادق قابلة للاشتعال، وكل ذلك بدعم من الممول للنظام ولبعض أطياف المعارضة، خلاف مصنع بين أبناء البلد الواحد.

غذى تلك السلوكيات المدمرة الأجواء المحتقنة وطول عمر الثورة، وبعض منصات الإعلام، وتمظهر ذلك في غياب الإنصاف وتبرير المجازر التي تقع على من ليس منا والبرود العاطفي في أي كارثة تحل بغيرنا وترأس مشاعر التخوين والتخويف والاحتراب الداخلي بجهل ذاتي وتوظيف خارجي، وتعميم الأحكام التعسفية والسلبية والتي تستخدم لفظ [كل] والذي يفيد الاستغراق والشمول فلا خير، فيمن اختلفنا معه سواء أكان حزباً أو شخصية أو قومية أو طائفة.

مع أنه حتى في الدين هناك [فسق دون فسق] و[معصية دون معصية]، و[صواب قطعي وصواب نسبي] و[خطأ قطعي وخطأ اجتهادي] و[مخالف، ومعادٍ وشديد العداوة] و[أصدقاء، وخلّص الأصدقاء] و[معارف ومجاهيل] …وسرت تلك الأحكام الجائرة في مواقفنا من قراءة سيرة أي شخص اختلفنا معه وكان من الضحايا الاجتماعية الأولى لهذه الثقافة الاستبدادية الأسدية هي صورة وصوت الشيخ البوطي الذي قتله نظام الأسد لأنّه يعلم يقيناً أنّه يمثل رأساً استقطابياً ورمزاً يجب أن يتم تصفيتهم لما له دلالة في ذاكرة وعمق المجتمع السوري.

الأسد يقرأ البوطي

لقد استطاع الأسد قراءة البوطي بعمق أكثر بعشرات المرات من قراءة المعارضة السورية السياسية والتفكير المجتمعي العاطفي لمواقفه المتوازنة التأصيلية.

نقول سيطرت على الكثيرين من الناس في التعامل ما صدره النظام وتبنته بعض صفوف المعارضة من محاصرة الشيخ بأنه من وعاظ السلاطين.

حكم على الشيخ البوطي بالشطب الكلي دون أي محاولة للإحاطة بالواقع الداخلي السوري وتعقيداته وتجلياته والقوى المجتمعية الفاعلة فيه.

إن وعينا بذلك كله يعفينا من الإصابة بمرض اللون الواحد (عقلية الأبيض والأسود) هذا المرض الذي يمكن توصيفه بأحادية اللون الأبيض والأسود، عقلية الصواب المطلق والخطأ المطلق، عقلية: إما أن تكون معي، وإما أن تكون ضدي، عقلية: لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

مع أن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً : أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم) وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من حس عليه وعلى المسلمين [يعني : تجسس ، ونقل أخباره إلى الأعداء] وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فدلّ على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات .

وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم: أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها … كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد    جاءت محاسنه بألف شفيع.

وقال آخر:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً     فأفعاله اللاتي سررن كثير”

لابد أن نؤكد أن سلطة عصابة البعث العابث نجحت بدهائها الماكر وسياستها المبرمجة في:

  • إذكاء الغباء.
  • تسييد المحاكمات الفجة.
  • شرعنة الاصطفافات الحدية والعقل الصفري عبر سياسة الإفقار في المدارك والمعارف.

الواقعية السياسية

إن قراءة شخص ما دون معرفة الواقع السياسي المحلي والنظام العالمي الدولي، وبخاصة إذا كان هذا الشخص من محاور الاستقطاب الجماعي، أو من رموز الهوية المجتمعية. فإن ذلك سيفضي إلى ظلم كبير لذلك الشخص.

في مدارس التحليل السياسي هناك ما يسمى بالواقعية السياسية وهي تعني إدراك حجم القوى الفاعلة سياسياً بكل تجلياتها الأمنية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية وحتى الثقافية والدينية ثم نتعامل مع تلك القوى وفق الممكن أو على مبدأ علاقة الاضطرار، وليس علاقة الاختيار.

وهذا يعني أن العلاقة ستبقى مشوبة بالحذر المتبادل بين الأطراف الفاعلة وبين الجهة السيادية (العصابة) التي مهما حاولت تطمين الجميع إلا أن الجميع يدرك أن لا أمان معها.

هذه النقطة الغائبة عن كثيرين من الإسلاميين هي التي أوقعتهم في فخ المكابرة، أي تجاوزوا ما هو ممكن ومتاح إلى ما ينبغي ويكون، وكان من جراء ذلك بطش لا مثيل له مع غض بصر دولي على مجازر حماه وحلب وتدمر التي قام بها حافظ الأسد.

التفكير العبقري عند الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله ظهر في وعيه للخارطة السياسية الداخلية وللإرادة الدولية، كان رحمه الله تعالى على وعي تام بالنظام وبدوره التشغيلي الوظيفي في سوريا وداخل المنطقة العربية والدور المناط بالحكم.

لقد حدثتني قيادات المعارضة في سوريا عن جلسات خاصة ومفاتحات بينهم وبين د. البوطي وأن البوطي كان يرى أن النظام هو محض مجرم قاتل، وأنه لا أمان له، وأنه جزء من الإقرار الدولي، وأن التعامل لتغيير هذا النظام يجب أن يتجاوز فكرة الثورة الهائجة إلى الإصلاح المتدرج.

لقد عاين الشيخ البوطي مآلات الضربات السياسية القاتلة لكل المناوئين بدءاً من رحيل البوطي نفسه مع والده الملا فراراً من بطش أتاتورك، مروراً بالإعدامات العلنية للرموز في مصر على يد عبد الناصر، ومعاينته للقبضة الأمنية في أحداث حماه في الستينايت (اعتصامات مروان حديد عام 1964) وجامع المرابط والأموي في دمشق وأحداث الثمانينيات والتي أسماها في كتاب (هذا والدي) فتنة الإخوان المسلمين.

وأيضاً الأحداث التي رافقت العشرية السوداء في الجزائر، وصولاً إلى أحداث 2011 التي دفع فيها دمه ثمناً في سبيل معتقداته وأفكاره.

طبيعة العلاقة التي كانت تحكم الشيخ البوطي والنظام، كانت مرتكزة على:

  • محاولات الاختراقات من الطرفين الشيخ والعصابة.
  • اجتهاد الشيخ في ملء الفراغ.
  • البحث عن المتاح لتقديم ما يمكن تقديمه وفق رؤيته الإصلاحية.

عاصر د. البوطي الإجرام النظامي وفداحة الخسائر التي مُني بها من وقف في وجه السلطة ومن كل الاتجاهات، وكان عليه أن يبحث عن خط بديل، وهنا تظهر صعوبة اتخاذ موقف من عصابة أو سلطة لا تقبل أبداً إلا الامتطاء أو الاحتواء أو الإملاء.

مواقف الشيخ لم تكن من قبيل إرضاء السلطة، والتي كانت تكره اسمه كما روى لي الوزير الدكتور رياض نعسان آغا وإنما كانت مساعي الشيخ تهدف إلى تحقيق ما يمكن تحقيقه.

اتصال الأسد بالبوطي

كان الشيخ يدرك أن النظام يستثمر في بعض مواقفه، وكان على الشيخ أن يستثمر بعض مواقف النظام، كما كان عليه أن يستفيد من النظام ومن الانفراجات التي يستطيع من خلالها تحقيق بعض مطالبه.

في مكالمة هاتفية من قبل حافظ الأسد حيث اتصل بالشيخ البوطي وقال له سل ما تريده وسيكون بين يديك. فأجاب الشيخ أشكرك سيادة الرئيس ولما ألح حافظ على الشيخ رد: [أريد منك أن تأمر كل من هم في الداخل أن يخرجوا ومن هم في الخارج أن يدخلوا] وفهم الرئيس حافظ أن الشيخ يريد إخراج المعتقلين وعودة المبعدين، فسأله:

وهل من قريب لك تريد أن تساعده؟

فقال الشيخ د. البوطي: كل من في الداخل أولادي وكل من في الخارج أهلي..

إن الذين يقرأون الدكتور البوطي دون مراجعة الواقع السياسي ودون مراجعة الممكن والمتاح سيظلمون الرجل ويظلمون حقيقتهم. فإن العلاقة بين السلطة والبوطي مبنية على السباق البيني، كما بينت قبل قليل كل طرف يريد أن يستثمر الآخر لمشروعه.

وفي ظل هذا السباق المحموم بين قوتين غير متكافئتين، تقع أخطاء وأخطاء ويدفع البعض الثمن.

كان لا بد للأسد الأب أن يتنازل ظاهرياً عن بعض الخطوات مقابل أن يضمن أن ثورة ما تستثمر الدين لن تقوم في وجهه كما قامت في الثمانينيات.

كانت محاولات الدولة متتالية لشراء الذمم، وكان البوطي يقف موقف المعاند ويتجلى ذلك في عدم اقتناعه بالسلطة أو سعيه لتحصيل أي منفعة منها: عدم قبوله لأي منصب رسمي. ورفضه التام لأي عطية من النظام رغم محاولات النظام المتكررة شراء ذمته، أو امتطاء ظهره، وكان النظام يعلم علماً واقعياً أن ذلك الأمر صعب بل إن بعض قيادات الأجهزة الأمنية رفضت أي منصب رسمي للشيخ البوطي وقد تناقل أهل دمشق قول اللواء محمد ناصيف تحذيره القصر الجمهوري بعدم الاقتراب من البوطي لأنه إن تولى منصبا لن نقدر على التحكم فيه فإما أن نحرقه أو يحرقنا على حد تعبير ناصيف.

فالبوطي ابن المدراس الفقهية التي لها جذور ناوأت السلطات ولعل من أهمها ” الشيخ حسن حبنكة ” رحمه الله رحمة واسعة والشيخ السباعي رحمه الله.

إن إنصاف راية الثورة من الظلم تعني مراجعة مواقفنا وهذا يتطلب منا انتقاد ذواتنا والتخلص من الأحكام القاصرة التي تستبطن عقلية النظام والغواية القومية، وتحطيم الرموز.

هل تساءلنا لماذا لا يقبل أي جسم عاقل ورشيد ينتمي إلى هوية المجتمع السوري وقيمه التاريخية حتى لو اختلفت المواقع؟

لماذا حكم على هوية المجتمع السوري بالإعدام سواء أكان موقفه علمياً كالشيخ البوطي، أو حتى معارضاً كالشيخ معاذ الخطيب وصولاً إلى الساروت وأبي فرات.

إن علاج أمراضنا يكون بالصحة الفكرية وذلك من خلال تفعيل دور العقلاء والتوقف عن القيل والقال والاقتطاع المسيس لموقف شخصية ما، وأن نضع أنفسنا في موقع الطرف الآخر لنعرف هل يمكن أن نحكم عليه كما نحكم الآن.

من حقك أن تقول: البوطي أخطأ، ولكن يجب أن تلتزم بالصدق وبالتقصي وعدم التجزئة.

وعلينا محاصرة كل من يتاجر بعقلية التصعيد ومن يصدر حكماً واحداً، فالناس ليسوا كتلة واحدة والتيارات ليست خطاً واحدًا، والانتماءات ليست على نسق واحد، وأخيرا لنفكر لصالح من نتقاتل تاركين المجرم الذي ضرب الكل بالكل.