القرار الأثيوبي بمقاطعة مفاوضات سد النهضة الفرق بين المنتَخب والمنقَلِب؟

 

رفضت أثيوبيا أن تشارك في الجولة التي ستعقد في واشنطن يومي 27 و28 فبراير لتكشف واقعا مريرا طالما تحدثنا عنه وهو ضعف الموقف المصري الذي أضاع سنوات من اللهث وراء المفاوض الإثيوبي الذي أدار المفاوضات بنجاح كبير بما يخدم مصلحته فقط غير مكترث بصرخات الآخرين تارة ولا تهديداتهم ولا حتى توسلاتهم تارة أخرى بعد أن قبلت مصر والسودان التفاوض بشكل فني متجاوزين الإطار القانوني الذي هو الأساس في هذه القضية

والحقيقة أنني كنت وما زلت متشائما لمخرجات التفاوض الحالي الذي استمر لسنوات بين الدول الثلاث لقناعتي بأن الطرف الإثيوبي اتخذ قرارا منفصلا بأن يدير مياه النيل الأزرق لمصالحه تحت شعار استخدام الموارد المائية مستغلا عنوانين كبيرين أحدهما داخلي وهو( مبدأ السيادة )وخارجيا (الاستخدام العادل والمنصف ) في حين أن الموقف المصري لا يبدو  أنه ثابت على موقف تفاوضي فمرة رافضًا للسد ومرة يقبل بالسد لكنه رافض لحجم البحيرة ومرة أخرى بعد عدة سنوات يقبل بالسد وبالبحيرة ويتحدث عن سنوات  الملء  ومرة أخيرة يقبل بكل ما تمليه عليه إثيوبيا حتى في حجم الحصص لكنها إي إثيوبيا لم توافق ولم تحضر وبناء السد يتواصل وفي كل مرة رأى المفاوض الإثيوبي تراجع المصريين وتنازلهم عما دافعوا عنه وتمسكوا به وغضبوا من أجله وعودتهم للمفاوضات بعد كل إعلان عن فشلها والذي تكرر كثيرا خلال ما يقارب 7 سنوات مما أكد لديهم ألا ثوابت لدى المصريين

مط المفاوضات:

وفي ظل الفشل المتكرر المقصود وغير المقصود لمفاوضات سد النهضة والتي جعلت البعض يستشعر أن هناك تعمدًا لـ (مط) المفاوضات وتطويل مدتها حتى ينتهي بناء السد من قبل إثيوبيا وبموافقة ضمنية من مصر،  بعد أن وافق السيسي على اتفاقية الخرطوم الإطارية واعترف بالسد، ذهب البعض الى اتهام النظام المصري بالاتفاق على نقاط خفية بين مصر واثيوبيا حول مياه النيل، وبأن الاتفاق شمل قوى إقليمية تسعى للحصول على حصة من مياه النيل وإدارة منظومة الكهرباء المتوقع إنتاجها من السدود الإثيوبية

وفي إطار البحث عن حلول لأزمة سد النهضة بين مصر إثيوبيا بحضور السودان أعتقد البعض أن المطالبة بطرف رابع سيكون الحل للجمود في المفاوضات ورفض إثيوبيا ان ترد على الشواغر والشواغل المصرية المتعلقة بسنوات الملء والتخزين وآلية تشغيل السد العالي بالتوازي مع سد النهضة وبالرغم من رفض إثيوبيا في البداية إلا أنها وافقت على وجود الولايات المتحدة والبنك الدولي

وجاءت مفاوضات واشنطن بحضور البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية التي اشترطت إثيوبيا أن يكونا مراقبين فقط وشاهد العالم الرئيس الأمريكي وهو يجتمع بممثلي الحكومات الثلاث من وزراء الخارجية والري واستغربت واستغرب الجميع عن علاقة وزارة الخزانة الأمريكية بملف سد النهضة الإثيوبي ولماذا البنك الدولي الآن وهل هناك شق مالي أو اتفاق مالي في هذا السياق ؟ وهل من المتوقع أن يعطي طرف لطرف أخر تعويضا ماليا أو يتدخل طرف ثالث ويعطي تعويضات مالية  وخصوصا في ظل الحديث عن تسعير المياه ومقارنة ذلك بسوق النفط في مقارنة مرفوضة من الشعوب لكنها قد تطرح حلا لخلافات المياه العابرة للحدود كما حدث بالفعل في مناطق مختلفة  من العالم وبمشاركة جهات دولية

يبتلع فشلا:

نعود للحقيقة المرة التي حاولت الحكومة المصرية أن تغيبها وهي عدم الاتفاق بين إثيوبيا ومصر على أي نقاط حول السد والتي رأينا فيها أكثر من مرة رئيس جمهورية مصر العربية عبد الفتاح السيسي يبتلع فشلا لجولة مفاوضات ويذهب ليؤكد استمرار مصر في التفاوض بالرغم من أن الرفض والتعنت كان أثيوبيا إلا أن الإدارة المصرية لملف السد وجولات التفاوض شجعت الطرف الإثيوبي ليفعل ما يشاء وتكرر هذا مع رئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين الذي طالبه السيسي بالتعهد بعدم الإضرار بمصر ليرحل ديسالين ويأتي أبي احمد علي ورأى الناس أن رئيس مصر يستنطق رئيس وزراء اثيوبيا بقسم مغلظ يتعهد فيه بعدم الإضرار بمصر باللغة العربية ورئيس الوزراء الاثيوبي يبتسم ويكرر ما لا يعرف ويجامل لكن الواقع في المفاوضات كان دائما رأيا مخالفا بالرغم من تصريحات مصر الدائمة أنها ستدعم مفاوضات سد النهضة ؟

النتيجة الواضحة لما سبق هو تغيب إثيوبيا عن جولات تفاوض شكلية أقرب ما تكون مشاركة اثيوبيا فيها مجاملة للحليف الأمريكي الذي بالأساس هو من وضع خارطة للسدود الإثيوبية على الأنهار  في الستينات عبر مركز الإصلاح الأمريكي بينما في الواقع يسعى الرئيس الأمريكي للإعلان عن اتفاق ولو رمزي يضمن للرئيس المصري حفظ ماء الوجه أمام شعبه لكنه لن يضمن أي حق للمصريين في مياه النيل ويضمن للرئيس الأمريكي توقيع ورقة انتخابية يستفيد منها بإنهاء أزمة بين دولتين من أكبر دول القارة السوداء

المفاجأة أن الطرف الاثيوبي أثبت أنه الوحيد في هذا التفاوض الذي لديه رؤية واضحة لأهدافه وخطواته ومرجعيته حيث كان دائما ما يتم نقاشه في جولات المفاوضات يُعرض داخل اثيوبيا على الأحزاب والنخبة والقوى الشعبية باعتبار أن هذا المشروع هو مشروع إثيوبيا النهضوي وبالتالي لا يحق لأحد أن يأخذ قرارا دون الرجوع للشعب وهو ما ظهر في كلمات رئيس الوزراء الإثيوبي أمام برلمانه أكثر من مرة سرا وعلانية

الرفض الإثيوبي الأخير بمقاطعة جولة نهاية فبراير 2020 هي إعلان واضح وصريح بأن الكلمة في ملف سد النهضة من قبل الطرف الإثيوبي هي للشعب الاثيوبي بعد أن قرر رئيس الوزراء الاثيوبي ان من يختاره شعبه في الانتخابات القادمة هو الأحق باستكمال التفاوض وتوقيع أي  اتفاقات مع مصر أو أي طرف آخر بما يضمن حق إثيوبيا ، وهكذا قررت اثيوبيا وقرر ابي احمد علي أن يحترم ناخبيه ويخشى من غضبهم حال توقيعه على أي اتفاقات وإن كانت شكلية

وهنا لابد من الذهاب فورا للطرف الثاني وهو الحكومة المصرية التي لم تعلن عن بنود اتفاق 2015 في الخرطوم ولم تقدم للشعب المصري أي تفاصيل حول نقاط التفاوض ولم تعلمه لماذا توقفت المفاوضات أكثر من عشرين مرة ثم عادت ولم كان الخلاف وفيما كان الاتفاق وما الذي اضافه تدخل أمريكا وما الذي تفعله وزارة الخزانة والبنك الدولي في خلاف أساسه  قانوني ولم توضح أيضا لماذا ستربط مصر والسودان وإثيوبيا الكهرباء وما موقف شركة الكهرباء الإسرائيلية التي قيل إنها تقدم خبراتها في منظومة الكهرباء الإثيوبية وذهب البعض لإدارتها لكهرباء السد المتوقعة

إضاعة الحقوق:

الخلاصة بوضوح في القرار الإثيوبي توضح أن من انتخبه الشعب واختاره خاف من غضب الشعب ووضع ألف حساب له بالرغم من تقدمه في التفاوض وإكماله بناء السد  وأجّل التوقيع على أي اتفاقات حتى يقول الشعب كلمته والتي ربما يختار فيها رئيسا آخر للوزراء تكون لديه قناعات مختلفة  لا التزامات أو تعهدات أو ايمان مغلظة لأحد

والقرار الاثيوبي أيضا ربما وبشكل واضح كشف عن أن النظام المصري لم يضيع حقوق مصر التاريخية في المياه فقط بل أضاع حقوقها المستقبلية وهيبتها وبعد سنوات من المفاوضات الفاشلة والعبثية لم يعلم الشعب المصري أيا من تفاصيلها بحجة أن من يقوم بها جهات سيادية وأن من يقومون بها هم أدري من الشعب بمصالحه والسؤال الآن من يحاسب هؤلاء؟ ومن يحاسب السيسي؟ ومن يحاسب برلمان مصر الذي لم يحاسب حكومته ولا رئيسه؟ الإجابة لا أحد لأنه باختصار من يحكم مصر لا يرى أهمية لشعب هو يرى أنه الوحيد الذي يعرف مصلحته   وسبق ذلك قرارات كثيرة اتخذت في اتفاقات ترسيم الحدود البحرية والغاز وتيران وصنافير ولم يكن للشعب ولا نخبته ولا نوابه ولا علمائه أي دور

القضية باختصار يا سادة لفهم القرار الاثيوبي هو فهم جوهر القضية التي ليست صراعا بين دولتين على المياه وإنما بين نظامين في الحكم نظام احترم شعبه وانحاز له ووضع ألف حساب له ونظام عسكري جاء بانقلاب تم تغليفه بشكل مدني بدون انتخابات حقيقة نظام لا يرى للشعب أي دور ويرى أنه صاحب القرار والكلمة وأنه طبيب الفلاسفة وأنه هو وحده من يعرف ويعلم وما دونه وسواه لابد أن يسمعوا ويطيعوا حتى ولو كان القرار خاطئا وكارثيا وأضراره ستطال الأجيال القادمة وتؤثر عليهم.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها