سن الأضحية بين الاجتهاد والتوقيف

 

                             

ما يزال الجدل يتجدد حول سن الأضحية التى تجزئ مع دخول عيد الأضحى كل عام فى ظل التطور الحادث فى مزارع التسمين والاعتلاف فى أوربا وغيرها، ما بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومانع ، وما بين قائل بالتوقيف وآخر قائل بالاجتهاد، بين منتصر لرأى الجمهور قديما الذى يشترط فى البقر والإبل والمعز أن تكون مسنة وجواز الجذع فى الضأن ، وبين من يجتهد فى ظل الواقع المعاصر الأوربى وما ماثله فلا يشترط مسألة السن بينما يراعى الحجم ووفرة اللحم وطيبه لاعتبارات يراها مقصودة شرعا.

ويحتدم الخلاف بين الفريقين حتى يتجاسر بعض المؤيدين لرأى الجمهور قديما إلى اعتبار الرأى الآخر اجتهادا فى مقابلة النص، وأن الأمر توقيفى . 

على حين يوضح أنصار الرأى الآخر أن هذا اجتهاد فى فهم النصوص وليس فى مقابلة النص، وهل كان أمثال  ابن عمر وعطاء والحسن، والزهرى والأوزاعى وابن حزم يجتهدون فى مقابلة النص؟ 

وقد تناولت المسألة في بحث علمي محكم تحت عنوان: ( سن الأضحية بين الاجتهاد والتوقيف)

وللعلماء أربعة آراء فيما يجزى من الأضحية:

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأضحية لا تجوز إلا بالثني من الإبل والبقر والغنم من الأضحية، واستثنى الجذع من الضأن .

ورأى ابن عمر والزهري أنه: لا يجزئ الجذع مطلقا .

ورأى عطاء والأوزاعي وطاووس وبعض المالكية والشافعية: أن الجذع يجزئ من جميع الأجناس . 

ورأى ابن حزم:أنه  لا تجزي في الأضاحي جذعة ولا جذع أصلا، لا من الضأن ولا من غير الضأن، ويجزي ما فوق الجذع، وما دون الجذع .

والحقيقة أن وقوع الخلاف فى المسألة من قديم على أربعة أقوال يقطع الطريق على من يزايد اليوم فيدعى أن القضية قطعية، او أنها منتهية أو أنها لا تحتمل ، وقديما قال قتادة : من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم أنفه الفقه .

كما يجب مراعاة العوامل المؤثرة في الفتوى في الواقع المعاصر متى وجدت، حتى يتصف الفقه بالمعاصرة، فيخاطب المسلمين الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، ويبصر واقعهم، ويقف على همومهم وقضاياهم .

والحقيقة أن رأى الجمهور قديما لن يظل هو الرأي المفتى به في كل القضايا إلى يوم الدين، ومن السهل على البعض ممن يشتغل بالفقه أن يتبنى رأى الجمهور قديما في كل القضايا المعاصرة، ويريح نفسه دون أن يجهد عقله ويعيد النظر في بعض المسائل المطروحة حديثا، ولكنه حتما سيصطدم بقاعدة تغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمنة والعوائد ، بل سيصطدم بروح الشريعة ومقاصدها، فإذا سلم له هذا المنهج في بعض المسائل؛ فلن يسلم له دائما، وإذا سلم له في كثيرها؛ فلن يسلم له في جميعها.

وليس معنى إعادة النظر في بعض الآراء الفقهية القديمة في ظل المستجدات المعاصرة أن نلوى عنق النصوص لتستجيب لنا بغير الحق، أو نتبع الهوى دون دليل فنضل، ولكن ما نعنيه هو أن نعيد النظر فى المسألة وأقوال الفقهاء فيها، وتقليب هذا التراث الفقهى واستخراج لآلئه، وتقديم رؤى معاصرة تلبى احتياجات الواقع، وتحل مشكلاته القائمة، مادامت المسائل دائرة في فلك الاجتهاد، لأن كثيرا من الآراء مبنى على مصلحة أو عرف أو بيئة مكانية أو معارف زمنية، وهذا من شأنه أن يجعل ما يصلح لعصر قد لا يصلح لغيره، وأن ما يناسب بيئة قد لا يناسب غيرها، وأن المصلحة تقوم وتسقط، وأن العرف يتغير ويتبدل، وإلا فما فائدة هذا التراث إن لم ننتفع به؟ وما فائدة ورود الاختلاف فى أكثر القضايا الفقهية؟ وكما قال سفيان: الفقه الرخصة من فقيه أما التشدد فيحسنه كل أحد .

ثم ما فائدة حرص الفقهاء من قديم على تدوين الآراء الفقهية  التي وردت في المسألة الواحدة في كتبهم، حتى وإن جاءت مخالفة لما يتبنونه؟ ولماذا لم يكتفوا بذكر رأى الجمهور فقط ؟ لا أجد جوابا لذلك – بعد أمانتهم العلمية وحفظهم لهذا التراث الفقهي- إلا أنهم يؤمنون بأن المسائل الفقهية حيث ورد فيها الخلاف فهي اجتهادية، وليس هناك رأى أولى من آخر إلا بمقدار ما يعضده الدليل، ويوافق الحق ويراعي مصالح الخلق، وإلا أنهم يؤمنون بأن الآراء الاجتهادية دائرة بين الأجر والأجرين، وإلا أنهم يرون أن المسألة حيث ورد فيها الخلاف فهي محتملة، ولا مانع أن يجد فيها رأى جديد، وإلا أنهم – أخيرا – يؤمنون بأن الآراء الاجتهادية ينطبق عليها قول المصوبة أو المخطئة، فعلى رأى المصوبة فكل مجتهد مصيب، وعلى رأى المخطئة فإن هناك رأيا صوابا وما عداه خطأ، لكن المخطيء غير متعين، والإثم مرفوع، والكل معذور .

كما أن من ضوابط فهم السنة جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد، حتى لا يضرب بعضها ببعض، وكذلك فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، والنظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة، أو ارتبط بعلة معينة، منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه، أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث.

ولما كان الموضوع لا يتسع عرضه بالتفصيل في هذا المقام فإني أعرض أبرز النتائج التى انتهت إليها الدراسة كالتالي:

ــ الأضحية في الشريعة ما يذبح في يوم الأضحى بنية القربة، وتعني إراقة الدم من النعم، أي الغنم والبقر والإبل .

ــ الأضحية سنة وليست واجبة على الراجح، ويستحب فعلها من الموسر، للأدلة الواردة في ذلك ، ولما قد روى عن الصحابة في الدلالة على أنها ليست بواجبة.

ــ لا خلاف بين العلماء على الأضحية بالمسنة من المعز والضأن والبقر والإبل، وما دون ذلك من الآراء؛ فهو محل خلاف كبير بين الفقهاء، ولم يسلم من المعارضة والتأويل والاحتمال .

ــ الأصل المفتي به هو الأضحية بالمسن – أو المسنة – من المعز والبقر والإبل وجواز الجذع من الضأن على رأى الجمهور إذا كانت ترعى بالطريقة المعتادة، والأصل مراعاة اشتراط السن في الظروف العادية .

ــ استسمان الأضحية ووفرة اللحم وطيبه وجمال المنظر تعليلات بارزة لدى الفقهاء فيما تصح به الأضحية وما لا تصح .

ومزارع التسمين متغير جديد معاصر في تغذية الأبقار والضأن، إذ المرعى والسلالة والتغذية والعوامل البيئية والحالة الصحية للأبوين؛ من العوامل المؤثرة في اكتمال نمو الحيوان والنضج الجنسي، ومن ثم فإن هذا من المؤثرات في الاجتهاد، ومن المغيرات للفتوى .

ــ اشتراط المسن في الأضحية من المعز والبقر والإبل والجذع من الضأن أمر معلل لدى الفقهاء بأنه علامة البلوغ ومظنة النضج واكتمال النمو ووفرة اللحم، وليس أمرا توقيفيا يجب التقيد به دون معرفة العلة، ومن ثم فالمسألة خاضعة للاجتهاد. والأبقار في مزارع التسمين قادرة على النزو والحمل عند عام ونصف فصاعدا، كما صرح المختصون، ومن ثم يصح الأضحية بها متى وصلت إلى هذه المرحلة، حتى وإن كانت دون العامين باعتبار ذلك أقل ما قيل، إذ المعول عليه البلوغ لا عدد الأشهر أو السنوات، فمتى تحقق صحت الأضحية به. ومتى أصبح الضأن قادرا على التناسل – النزو للذكر والحمل للأنثى – فهو أضحية تجزئ، حتى وإن لم يبلغ ستة أشهر باعتبار ذلك أقل ما قيل .

ــ إذا وصلت الجذاع من الأبقار في مزارع التسمين فى أوربا إلى سن الاستفادة الفضلى من لحمها، وهى دون سن العامين، فهي أيضا أضحية جائزة، حيث يتناقص وزنها بعد ذلك، ويتراجع طيب لحمها، ولا يبقى عليها عادة بعد ذلك؛ لما تمثله من خسارة على أربابها، وليس من المقبول عقلا ولا شرعا أن ننتظر حتى ينقص وزنها، ويتراجع طيب لحمها بدعوى أن تصبح مسنة، فنتمسك بظاهر النص ونهمل المقصد، بل من العبث الذي يناقض المصلحة الشرعية الانتظار إلى أن تصبح مسنة مع قلة المنفعة وتحقق نقيض المصلحة، فالإسلام قد راعى مصالح العباد وجعل ذلك من مقاصد الشريعة .

ــ حيثما تحقق فى الذبيحة الوصف بالمسنة أو الثني في الأبقار  ( أي ظهور الثنايا المستديمة) عند أي عدد من الأشهر نتيجة لطريقة التغذية، أو نوع السلالة؛ فقد تحقق كونها أضحية، حتى وإن لم تصل إلى عامين، باعتبار ذلك أقل ما قيل، وهو الحاصل بالفعل فى مزارع التسمين اليوم؛ لأن هذه السن ليست مقصودة لذاتها، وإنما حددت- تقديرا واجتهادا- لمظنة تحقق هذا الوصف، وما سوغ للفقهاء الاختلاف فيما بينهم في تحديد السن قديما يسوغ لنا اليوم مخالفتهم، وفق هذه الاعتبارات 

ــ  من غير المستساغ – عقلا وشرعا – أن نفهم عن صاحب الشرع إجازة الجذع من الضأن في الأضحية، وهو أمر معلل، دون إجازة الجذاع من البقر والإبل، وهى في الثمن أغلى، وفى الحجم أكبر ، وفي الوزن أثقل، وفي النفع أعم وأشمل، وفي العطاء من المضحي أسخى وأكرم، وفي البذل أعظم، وفي القربة أدنى؛ إلا من باب أن ذلك خرج مخرج الغالب، أو أنه كان الأيسر على الصحابة .

ــ الأضحية بالجذاع من الأبقار التي وصلت إلى أفضل وزن لها في مزارع التسمين في الواقع الأوربي، وفي أي واقع مماثل جائزة على رأى من يجيز الأضحية بالجذاع مطلقا، وجائزة من وجه آخر، وذلك حين تعسر المسان، أو يعز طلبها، من باب الرخصة التي رخص في مثلها الرسول لصحابته حين عسرت عليهم الثنايا، وعز وجودها، وغلا سعرها، رغم أنها كانت ترعى في المرعى الطبيعي المعتاد قبل أن يعرف الناس مزارع التسمين .

ــ الأضحية بالجذاع من الأبقار في مزارع التسمين في الواقع الغربي وما شابهه جائزة أيضا حين لا يوجد غيرها من باب رفع الحرج ودفع المشقة والتيسير، وتجنب التعسير الذى جاءت به الشريعة واستقرت عليه أحكامها، ومن باب الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، إذ التكليف على قدر الوسع و القدرة .

ــ الأضحية بالضأن والعجول التي بلغت أفضل وزن لها في مزارع التسمين في أوربا لعلة وفرة اللحم ، فيها مقصد شرعي آخر وهو إحياء هذه الشعيرة في الواقع الأوربي التي كادت أن تندثر فيه، وتربية الأجيال الناشئة في أوربا على شعائر الإسلام، وتعزيز للعلاقات مع غير المسلمين في المجتمعات الأوربية بالإهداء والتصدق منها، وتأليف قلوبهم على الإسلام .

وقد أوصيت أن يحرص المسلمون في أوربا خاصة على إقامة هذه الشعيرة على النحو الذي فصلناه، وأن تطلب المجامع الفقهية من أهل الخبرة تقريرا مفصلا حول المستجدات التي طرأت على الأصناف التي يجوز الأضحية بها، في مزارع التسمين من حيث الوزن وسن البلوغ وتنوع السلالة والعوامل المؤثرة في النمو، ومن ثم إصدار قرارات وفتاوى تتوافق مع هذه المستجدات، ليطمئن الناس، ويرفع عنهم الحرج .

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها