إنها الحقيقة.. تركيا اليوم ليست التي اعتدتم عليها

 

إنها صناديق الاقتراع والاستحقاقات الانتخابية التي تقدّم نتائج إرادة الشعب، وتُعَد أقوى وثيقة يمكن الاعتماد عليها لفهم الوضع الحالي للمجتمع وتحليل مكوناته. ورغم أهمية تلك النتائج فإن هناك طرقًا مختلفة تساعد على توقع هذه النتائج قبل صدورها فعليًّا من صناديق الاقتراع. ومن تلك الطرق مدى التواصل المباشر مع المجتمع على اختلاف طوائفه وفئاته العمرية، ومدى فهم كل شرائحه بالاستماع لها وقراءة تطلعاتها بدلًا من الانشغال بإلقاء الخطب من جانب واحد على الدوام. ومن يتمكن من إقامة هذا التواصل يستطيع بالفعل فهم الجمهور، والتنبؤ بما يمكن أن تأتي به صناديق الاقتراع.

كما أن الدراسات الاستقصائية والتقارير التي أُجريت كما ينبغي تأتي أيضًا ضمن طرق الاستقراء والإحصاء للتنبؤ بالأحداث وتُعَد مؤشرًا مهمًّا لاستكشاف المستقبل. فإذا وُظّفت لتشكيل الرأي العام بدلًا من أن تكون وسيلة شفافة لفهم الواقع وتوقع المستقبل، بمعنى أن تجعل الجمهور يقول ويردد ما يريد أصحاب الاستطلاع أن يسمعوه بدلا من الإنصات إلى ما يريد الجمهور نفسه الإفصاح عنه، فستكون المحصلة التضليل والعيش بعيدًا عن الواقع.

ما تفتقر إليه المعارضة

والحقيقة أن الرئيس أردوغان في سياسته على وعي كبير بهذين المسارين، ولا يتهاون في الوقوف على أرض صلبة بالنتائج الواقعية.

ولذلك تكمن الخسارة الكبيرة لجميع معارضي أردوغان في أنهم يفتقرون إلى الاتصال بالميدان الحقيقي، وأنهم حتى لما ذهبوا إلى الميدان لم يكن لديهم وقت للاستماع بل لإعطاء الأوامر فقط، هكذا: لا ترتكبوا حماقة ولا تصوتوا للشخص الخطأ، فأمامكم المرشحون الذين يستحقون أصواتكم لأنهم المتعلمون والمثقفون والحضاريون، والأجواء مناسبة جدًّا لكم كي لا تذهب أصواتكم إلى المكان الخطأ.

وكأنهم مقتنعون بأن هذه هي الطريقة التي يمكن أن يفوزوا بها في الانتخابات، حين يوجهون الناس إلى التصويت لمرشحيهم ونشر لجانهم على مواقع التواصل الاجتماعي كما يحلو لهم ليهيئوا أجواءً خيالية لفوزهم. وعلى تويتر في العالم الافتراضي، لم يتركوا لأي أحد مجرد فرصة للاختيار بل سرعان ما أعلنوا هناك عن فوزهم الساحق. وفي مقابل هذا الوهم، يأتي العالم الحقيقي مختلفًا تمامًا. ويبدو أنهم اعتادوا على أن يستيقظوا كل مرة بعبارة: “مرحبا بكم في صحراء الحقيقة!”.

ولا شك أنها صحراء بالنسبة لهم فقط، لأنها هي العالم الحقيقي لكل من يعيشون حياتهم في الميدان الحقيقي لا الافتراضي.

كما أنهم اعتادوا كذلك على تقديم الأعذار الجاهزة نفسها بعد هزيمتهم، عندما يستيقظون مصدومين من حلمهم في واقعهم الافتراضي الذي اختلقوه، فيلوّحون دائمًا بأن الشعب ما زال جاهلًا وغير متعلم وفلاحين وسكان القرى، وأنهم عبارة عن كتلة من البشر تعيش على مساعدات الدولة ولا يستطيعون تقدير القيم الخاصة، لدرجة أن وصل الحد بالمعارضة إلى اتهام الديمقراطية اللعينة التي جعلت الانتخابات ضرورية، وبعد مرحلة معينة سيكون من الجيد أن يحكموا الشعب رغمًا عنه.

ولذلك، اصطدموا -سواء أحبوا ذلك أم لا- مع الديمقراطية وإجراء الانتخابات في أجواء الصدق والنزاهة ومساواة الصناديق بين صوت الرعاة في الجبل والمتعلمين.

فهؤلاء كانوا قبل الانتخابات يقولون: بالتأكيد سنفوز. وكما هو عهدهم في السابق، فعادتهم إلقاء اللوم على ناخبيهم بدلًا من مناقشة أسباب خسارتهم الكبيرة في الجولة الأولى.

الفلاحون الذين لم يصل إليهم التنوير

ومع ذلك، فإن أقوى حجة يلجأ إليها علماء الاجتماع والشعراء والصحفيون والكُتاب هي إقامة المقارنة بين “الجماهير غير المتعلمة والريفية التي ليس لديها شيء أهم من دينها أو عِرقها والتي تعتمد في الغالب على المساعدات الحكومية للعيش” وبين “الفئة المثقفة والمدنية القادرة على الإنتاج”. وتوضح هذه الرؤية مدى استحقاق المعارضة للهزيمة على مدى حياتهم.

ومن الأمثلة الحاضرة على ما اعتاد عليه هؤلاء إهانات الشاعر “أتاول بهرام أوغلو” المؤيد لحزب الشعب الجمهوري لناخبي أردوغان، إذ قال في تدوينة له: “الناخبون الذين صوتوا للرئيس أردوغان هم الفلاحون الذين لم يصل إليهم التنوير والمحافظون والفقراء غير الواعين والمقيمون في الخارج الذين لا يجدون فرصًا جيدة للعمل والأغنياء العرب الرجعيون الذين حصلوا على الجنسية التركية بالمال”، في حين وصف الذين صوتوا لكليجدار أوغلو بأنهم المستنيرون الواعون المتحضرون.

والآن، ألا يُعَد صاحب مثل هذه العقلية مخادعًا للأمة في هذا البلد لسنوات حين يقدّم نفسه بوصفه شاعرًا؟!

وعلى النسق نفسه، تقدمت وكالة رويترز التي استمعت لمثل هذه العقليات لتلقي بدلوها، فقالت: “المتعلمون في المناطق الحضرية والمدركون للعالم هم الذين فضلوا كليجدار أوغلو”، في تمييز فج بين فئات الشعب التركي كشف أيضًا عن الجهل الشديد مثل كل الذين أشاعوا هذه الحجة من المعارضة.

وللرد على هذه الدعاوى الواهية أضع بين يدَي القارئ الكريم ست نقاط من الميدان، هي:

أولًا: تقدّم كليجدار أوغلو في 9 مدن كبرى فقط من أصل 30 مدينة كبيرة في تركيا، ولم يكن التقدم كبيرًا في معظم هذه المدن الـ9 وخاصة في أنقرة وإسطنبول وهما أكبر مدينتين، فقد اقتربت نسب التصويت لدرجة التعادل حيث اقتربت نسبة أردوغان فيهما من 50%.

ثانيًا: إن محاولة تحديد المدن الكبرى بالتعليم والإنتاج هي دليل واضح على الجهل التام بالواقع الاجتماعي لتركيا وعالم اليوم، إذ يضيق الفارق كثيرًا بين المدينة والقرية في عالم العولمة اليوم، بالإضافة إلى أن معدل التحضر في تركيا اليوم يزيد على 90%.

وبعبارة أخرى، فإن تركيا اليوم ليست هي تركيا التي حكمها حزب الشعب الجمهوري حزبًا واحدًا وبدون انتخابات تمامًا كما كانوا ينتظرون، تلك التي كان المعدل الحضري فيها 20% إلى جانب أن الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية كانت أكبر بكثير. ولم يكن في تركيا سوى جامعة ونصف، ولم يكن من الممكن الالتحاق بها ثم التخرج دون الحصول على الموافقة الأيديولوجية المسبقة من الحزب الواحد.

ثالثًا: الحقيقة التي يجب أن يستوعبها الذين يرغبون في دراسة المجتمع التركي وتحليله هي أن كل شبر الآن في تركيا على اتصال مباشر بالعالم، سواء من خلال إنتاجها أو مستوى التعليم فيها أو جميع قنوات المشاركة السياسية.

رابعًا: أحد العوامل المهمة التي تؤكد هذا الاتصال وتسرعه وتغذيه الآن هو وجود جامعة واحدة على الأقل في 81 مقاطعة في تركيا. وحاليًّا، تحتل تركيا المرتبة الأولى في العالم في معدل الالتحاق بالجامعات، إذ يوجد 8 ملايين ونصف مليون طالب جامعي في تركيا. عمَّ تتحدثون؟! إذا أردتم اخرجوا وتجولوا في الأناضول قبل مداومة الحديث عما تجهلون.

خامسًا: إن مدن الأناضول بقدر تقدمها في التعليم فإنها كذلك متقدمة من حيث الإنتاج. اذهب وألقِ نظرة على غازي عنتاب وقونية وشانلي أورفا وبورصة وتشوروم والصناعات المتطورة في جميع المدن، لتعرف مستويات الإنتاج فيها.

سادسًا: إذا قبلنا أن سكان المدن المتعلمين يصوتون لكليجدار أوغلو وفقًا لأفكارهم، فأين سنضع أصوات ناخبي شرناق وهكاري وتونجلي وبيتليس وسيرت وأغري وإغدر وكارس؟! من كان يصوّت هنا بناء على عِرقه؟! ومن كان يصوت وفقًا لدينه أو طائفته؟! أين هم الآن بالضبط؟!

إن الجهل -أيتها المعارضة- هو أن تظن نفسك في منزلة أعلى من الآخرين، لأنك حينها لن تصل إلا إلى مستنقع الغرور والضياع.

ولعل أصحاب هذه التوجهات يتعلمون الدرس يومًا، ويخرجوا من مستنقعهم إلى الميدان الحقيقي للعمل والمنافسة.

المصدر : الجزيرة مباشر