نحن بنينا الحضارة.. لكن العالم يحتاج إلى معرفة القصة!

لكي نبني المستقبل يجب أن نتذكر القصة، ونفهم أحداثها، ونعيد إلى البشرية الذاكرة؛ فالقصة مصدر قوة لكل إنسان يبحث عن معنى لحياته، ويكافح لبناء حضارة جديدة على قواعد الإيمان بالله وحده والعدالة وكرامة الإنسان.

لذلك فإن رواية تلك القصة حق لكل شعوب العالم التي فرض الغرب استعماره الثقافي عليها لتخضع لسيطرته الرأسمالية؛ فالكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل يحتاج إلى معرفة القصة التي تبرهن على أن الإنسان يستطيع أن يبني حضارة عظيمة عندما يمتلك شجاعة القلب والضمير، والحكمة المرتبطة بالإيمان بالله، والأهداف العظيمة.

لذلك عمل الغرب ليدفعنا إلى نسيان القصة باستخدام المستشرقين والصحافة ووسائل الإعلام.. لكن ذلك لم يكن كافيا، فصنع للأمة مثقفين متغربين، وفّر لهم أسباب الشهرة، ومنحهم الدرجات العلمية والألقاب الفخمة والمناصب والجوائز، في الوقت الذي اضطهدت فيه السلطات المستبدة التابعة للغرب المثقفين الحقيقيين الذين يعتزون بانتمائهم للأمة الإسلامية وحضارتها وثقافتها، وأغلقت في وجوههم المجال العام حتى لا يعيدوا الذاكرة إلى الأمة.

المعركة من أجل المستقبل!

والقصة لا تشكل لنا فقط فخرا بالتاريخ، وبالإنجازات الحضارية العظيمة التي حققها الأجداد، بالرغم من أن هذا الفخر حق لنا فهو يزيد قوتنا النفسية، وشعورنا بشرعية الوجود، لكن القصة تشكل أساسا لبناء المستقبل.

إن الدولة التي تريد أن تبني مكانتها في عالم جديد يتشكل الآن يجب أن تفكر في استثمار ثروتها العلمية والأدبية والثقافية، وتعمل لإقامة مجتمع المعرفة؛ فاقتصاد المستقبل يعتمد على المعرفة التي تساهم في إطلاق قدرات الناس على إنتاج الأفكار الجديدة، وتحفيزهم للكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل.

إن الأمة التي تريد أن تساهم في بناء حضارة القرن الـ21 يجب أن تقرأ تاريخها بعمق؛ فدراسة التجارب التاريخية توفّر الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه المجتمعات المعرفية.

لذلك فإننا عندما نكافح لنعيد الذاكرة إلى أمتنا، فإن بصيرتنا تتطلع إلى المستقبل؛ فقصة أمتنا توضح أن الإنسان يستطيع أن يبني الحضارة عندما يتطلع إلى تحقيق أهداف عظيمة مثل تحرير البشرية من العبودية لغير الله.

من أهم أحداث القصة التي تحتاج الأمة العربية إلى الوعي بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام في المدينة المنورة أول مجتمع معرفة في التاريخ، وفي هذا المجتمع علّم 120 ألفا من أصحابه كيف يغيّرون العالم، ويعلّمون البشرية، ويبنون الحضارة.

وتوضح دراسة سلوك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أدركوا أهمية المعرفة، وأنها تشكل أعظم ثروة تمتلكها الأمة، وأنها أساس القوة.

نحن الأمناء على القصة كلها!

وفي المدينة المنورة علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قصص الأنبياء، من آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القصص مصدرها هو القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزّل على رسوله عن طريق أمين الوحي جبريل.

لذلك فإن الأمة الإسلامية هي التي تعرف هذه القصص، وهي الأمينة عليها، والمكلفة بتبليغها لكل البشر، وهذه القصص تشكل أساس الحكمة، ومن حق كل إنسان أن يعرفها، ومن واجب الأمة الإسلامية أن تعلّم الناس القصص التي تساهم على ترشيد سلوكهم وحياتهم وعلى حماية كرامتهم ووجودهم.

ونحن بنينا الحضارة!

المعرفة تطلق طاقات الإنسان، وتزيد قدرته على الإبداع، والاكتشاف، والنظر في الكون على أساس الإيمان بقدرة رب هذا الكون وخالقه، لذلك ارتبطت المعرفة في الحضارة الإسلامية بالإيمان، وكانت المناهج العلمية التي طورها العلماء المسلمون -بما فيها المنهج التجريبي- تقود الإنسان إلى الإيمان بالله، فالمعرفة التي اكتشفها العلماء المسلمون باستخدام هذه المناهج لم يكن هدفها زيادة الإنتاج المادي وتحقيق الرفاهية والسعادة للإنسان فقط، بل كان لها الكثير من الأهداف المتميزة التي لم يتنبه الغرب إليها من أهمها مساعدة الإنسان على اكتشاف معنى الحياة، وعبادة الله، وإعمار الأرض، وبناء الحضارة.

وبالمعرفة التي تعلمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة انطلقوا ليغيّروا العالم، وليبنوا حضارة جديدة، وهذا يفسر لنا كيف تحول الفرسان المؤمنون الذين فتحوا البلاد وهزموا فارس والروم إلى علماء، قاموا بوظيفة عظيمة في تعليم الناس، ونشر المعرفة.

هل يمكن أن نكرر التجربة؟!

إعادة بناء الحضارة الإسلامية حق للبشرية كلها على هذه الأمة، وكل فرد فيها يجب أن يشحذ خياله ليقوم بدور جديد في بناء عالم جديد، لكن لكي يقوم بهذا الدور يجب أن يعرف ويعي ويدرك القصة.

ورواية قصة العرب عندما انطلقوا من جزيرتهم ليغيروا العالم ليست بغرض الترف الفكري والثقافي، بالرغم من أنها تجذب الانتباه، وتشحذ العقول، وتملأ النفوس المُحبة للحرية والعدل سعادة وبهجة، بل لأنها تشكل أساسا لمشروع حضاري إسلامي جديد لإنقاذ الشعوب التي عانت طويلا.

المصدر : الجزيرة مباشر