اعتقال الغنوشي والصراع على السلطة الزائفة في السودان!

كل عام وأنتم بخير، ها نحن والحمد لله قد أنعم الله علينا بتمام شهر رمضان الكريم الذي يأتي كل عام بأجوائه الفريدة ليعيد البشرية كلها إلى أسرار وجودها في الأرض. يأتي كالغيث الذي يمحو الأوساخ ويضيء الظلام ويوقظ الإنسان ويذكِّره بما تغافل عنه ونسيه، يأتي ليعيد ضبط البوصلة التي سيتبعها كل بني آدم. وما أجمل تعبير أستاذنا خير الدين كارامان إذ قال: رحيل رمضان ليس هجرًا لنا ولا تخلِّيًا عنا فهو لا يتركنا ونحن كذلك لا نتركه.

فرمضان تماما كما يذكرنا بعلاقتنا بأسلافنا، فإنه يربطنا أيضا بأشخاص آخرين يعيشون في نفس العصر ويذكِّرنا بواجباتنا نحوهم. ورغم ذلك فإنه شهر لا يأتي دائما في جو رومانسي بسيط كما لو كان رواية أدبية؛ إذ إن أحوال المسلمين تبعث على الأسى والحسرة حيث لا أثر لتحسن الظروف في فلسطين وكشمير وميانمار واليمن وسوريا وغيرها من المناطق الإسلامية.

السودان

وبالإضافة إلى ما تمر به كل تلك الدول وما يحدث فيها وفي غيرها، فإن الأوضاع في السودان تزداد تعقيدا، وللأسف فإن السبب الرئيسي في تلك الاضطرابات ليس تدخلات من خارج العالم الإسلامي، ولكن بسبب طموحات السلطة داخل العالم الإسلامي نفسه والصراع على المناصب وكسب الأرض. الأمر الذي جعل السودان يعيش أوقاتا عصيبة لسنوات.

فالقوى المتصارعة في السودان لم تقدم أي وعود للشعب السوداني في بلد أفضل له أن يحقق الرخاء والسلام والسعادة والعدالة والكرامة الإنسانية والتنمية والتقدم لشعبه. والواقع يؤكد أن هناك صراعا حادا للاستيلاء على مقاليد الأمور بأي وسيلة ممكنة مهما كانت التداعيات. ولسوء الحظ فإن الذين يمتلكون القوة السياسية أو الاقتصادية في العالم الإسلامي ليس لديهم أي اهتمام بالعالم الإسلامي بل يمكننا القول إن مشكلتهم الأساسية مع العالم الإسلامي نفسه، فليس لديهم أي اهتمام بكرامة الإنسان أو حقوقه. ويمكن تلخيص حقيقة ذلك الصراع الذي أصبح نموذجا متبعا في العالم العربي الإسلامي بأنه سعي لتعزيز الموقف وتحصيل المكاسب بأي ثمن.

وكما هو معلوم في عالم السياسة هناك الآن نمطان ومحوران سياسيان في العالم الإسلامي. الأول هو السياسة المؤيدة للديمقراطية التي تؤكد حقوق الشعوب وإرادتها. والآخر هو نوع من السياسة القائمة على الأنظمة الاستبدادية، ويحاول جاهدا وَأْدَ العمليات الديمقراطية باستخدام الثورات المضادة والانقلابات. ونموذج ذلك في السودان في الآونة الأخيرة، كلما سنحت الفرصة لتقدم سياسة الديمقراطية واجهنا خطوة من شأنها أن تخنقها وليس الأمر قاصرا على السودان بل هي صورة تتكرر في أماكن أخرى.

ولا بد من التأكيد هنا على أننا لا يمكننا اعتبار السودانيين شعبا غير قادر على التوافق والتصالح، أو أن الصراع الدائر بسبب ديناميكياتهم الداخلية الخاصة أو بسبب صراعات بسيطة على السلطة الداخلية. فإن الأصوات الخارجية التي تزعم بأن العالم الإسلامي لا يمكنه أن يحكم نفسه بنفسه ولا يستطيع أن يدبر أموره تلك الأصوات التي تخلط بين الأمور ولا تكيل بنفس المكيال لا شك في أنها سبب رئيسي فيما يحدث الآن. ولذلك فإن تلك الصراعات يتم إشعالها وتأجيجها وتمويلها ورعايتها من الخارج.

تونس وراشد الغنوشي

ومن الشرق الأفريقي في السودان إلى الأحداث التي وقعت في الأيام الأخيرة من رمضان في تونس، صورة تتكرر ومظهر لنفس الصراع مرة أخرى. ففي الساعات الأخيرة من شهر رمضان وقبل وقت الإفطار مباشرة تم مداهمة منزل راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق، واستمر 50 من رجال الشرطة في تفتيش المنزل مدة ساعتين ثم اعتقلوه واقتادوه إلى مركز الشرطة. هكذا اعتُقل الغنوشي البالغ من العمر 82 عاما ولم يُسمح له حتى بمقابلة محاميه مدة يومين كاملين.

وقبل الغنوشي تم بالفعل اعتقال العديد من أعضاء حركة النهضة في انقلاب ناعم ينفذه الرئيس المنتخب قيس سعيد خطوة بخطوة بعد فترة وجيزة من انتخابه، وهو في تلك الخطوة يبدو كأنه يعاقب تونس التي كانت مهد الثورات العربية.

وقد ظهر وعي الشعب التونسي وفهمه في نسبة المشاركة في الانتخابات العامة الأخيرة التي كانت أقل من 10 في المائة لتكشف بوضوح ردّ الشعب على هذا الانقلاب الذي كان يسعى للحصول على شرعية من خلال صناديق الاقتراع. وقد أثار فشل الانقلاب من خلال الديمقراطية غضب قيس سعيد ونظامه. ويظهر هذا الغضب بشكل خاص في الاعتقالات الانتقامية لأعضاء حركة النهضة.

ومع ذلك ليست حركة النهضة وحدها التي لا توافق على سياسات قيس سعيد ونظامه. فإن أي ممارسة غير ديمقراطية يقوم بها قيس سعيد كقيامه بحل البرلمان دون أي مبرر معقول لا ترفضها حركة النهضة بقيادة الغنوشي فحسب، بل ترفضها أيضًا قطاعات كبيرة جدًّا من الشعب. لكن الغضب الدكتاتوري ضد هذه المعارضة يتوجه حصريًّا إلى حركة النهضة؛ لأن الجميع يعرف أن النهضة هي نموذج لإمكانية توافق الإسلام والديمقراطية في العالم الإسلامي، وحدوث هذا الاحتمال يمثل كابوسا مخيفا لمحور الثورة المضادة.

وإن تعرض الغنوشي -الذي عُرف بشخصيته الفكرية القوية طوال حياته وبموقفه البعيد كل البعد عن كل أنواع حركات العنف- لهذه المعاملة هو في الواقع وضع يفضح كل ما يتشدق به الغربيون وتابعوهم في أنظمة الدول الإسلامية حول الإسلام والعالم الإسلامي.

وبينما كانت الطريقة التي أُوصِيَ الإخوان المسلمون في مصر عامَي 2012-2013 باتباعها هي أن يتصرفوا باعتدال وأن يتحاورا مع غيرهم مثلما فعل الغنوشي، تعرضت جماعة الإخوان في مصر أيضًا لانقلاب، على الرغم من عدم وجود أي غضب حقيقي أو ممارسة استبدادية؛ ليظهر جليا أن من ينشرون الاضطرابات في العالم الإسلامي لا يقبلون من الغنوشي أو الإخوان المسلمين في مصر أي فرصة للنهضة والحرية والعدالة للشعوب؛ لأن في تحقيق ذلك زوالا للسيطرة الغربية والتبعية للغرب.

والحقيقة أن الغنوشي بعمقه الفكري وآفاقه وشخصيته السياسية والروحية وقيادته يمثل فرصة عظيمة ليس لتونس فحسب، بل بشكل أساسي للعالم الإسلامي كله. وليس من قبيل المبالغة القول إن أسلوبه في السياسة ومنهجه الفكري والفقهي يشكلان أسلوبا مميزا في العلوم السياسية الإسلامية.

إنه وضع يدعو إلى الحسرة ليس فقط على تونس بل على العالم الإسلامي بأسره، فمن الغريب أن مثل هذه القامة الفكرية العظيمة (وغيرها من العلماء المسلمين المعتقلين في سجون الدول الإسلامية الأخرى) تكون مجبرة على الدفاع عن نفسها في مشهد سياسي غير منطقي وسطحي للغاية.

المصدر : الجزيرة مباشر