انتخابات الصحفيين المصريين وانخفاض سقف الحرية

معركة رمزية، فإن حدث التغيير وجاء الصحفيون بمن يمثلهم ويدافع عنهم من الزملاء الذين يشهد لهم نضالهم النقابي بالدفاع عن المهنة ستكون بداية لاستعادة التوزان في العلاقة مع الحكومة

التصميم السيئ لواجهة مبنى النقابة بعد 4 سنوات من "تكفين المبنى"

لأول مرة منذ إنشائها تشهد نقابة الصحفيين المصريين انتخابات باهتة، لاختيار نقيب جديد ونصف أعضاء المجلس، تغيب عنها التيارات السياسية، ولا تتناول البرامج الانتخابية للمرشحين القضايا الجوهرية التي تهم أبناء المهنة، فلا حديث عن أسباب أزمة المؤسسات والصحف الورقية وانهيار توزيعها والتلويح بوقفها، ولا مجاهرة بالكلام الصريح عن الحريات وحق الصحفي في التعبير عن رأيه من دون أن يحبس احتياطيا سنوات في سجون قاسية.

ولكن برغم حالة الخوف التي تخيم على المناخ العام وعلى الصحافة فإن القضايا المثارة بين الصحفيين في معظمها تدور حول الأزمة التي تعاني منها المهنة في السنوات الأخيرة؛ فـ”بدل المراجع” الذي يعد أهم الموضوعات المطروحة والذي تقدمه الحكومة لدعم مرشحها لمنصب النقيب، يشير إلى التدهور الاقتصادي والغلاء والمعاناة التي يعيشها غالبية الصحفيين.

ويأتي الغضب من التصميم السيئ لواجهة مبنى النقابة ليعكس حالة الاحتقان من محاولة الحكومة شغل مدخل النقابة أكثر من 4 سنوات لمنع الاحتجاجات على سلم النقابة الشهير، الذي كان من العلامات البارزة للصرح العريق الذي بناه النقيب الأسبق إبراهيم نافع رحمه الله، حيث تم تشويه المدخل والواجهة بمعدات البناء والسقالات وتغطية المبنى بالخيش، حتى إن الصحفيين من باب السخرية وصفوا ما حدث بأنه “تكفين” للنقابة.

تواكب خروج سلم النقابة من الخدمة محاولات منع تجمع الصحفيين والالتقاء؛ بتعطيل الكافتريا بالدور الثامن فترات طويلة بحجة التطوير، وتمت إزالة الكراسي التي كانت بكل الأدوار، وبناء مكاتب في القاعة الواسعة بالدور الرابع التي كان يجلس بها الصحفيون، وحتى نادي الصحفيين على النيل تم إغلاقه منذ سنوات بدواعي التطوير!

سلم النقابة وتداعيات مظاهرات تيران وصنافير

كانت مصادرة سلم النقابة ومنع استخدامه ردًّا على المظاهرات التي نُظّمت ضد بيع تيران وصنافير في 2016، وبعد اقتحام النقابة واعتقال الزميلين عمرو بدر (المرشح لعضوية المجلس الجديد) ومحمود السقا، وعندما اتخذ نقيب الصحفيين الأسبق يحيى قلاش موقفا صلبا ضد ما حدث، وقاد الجمعية العمومية التي أصدرت قرارات احتجاجية، تمت إحالة النقيب وكل من جمال عبد الرحيم السكرتير العام (المرشح لعضوية المجلس) وخالد البلشي وكيل النقابة (المرشح لمنصب النقيب وهو المنافس الأقوى في مواجهة مرشح الحكومة خالد ميري) إلى المحاكمة الجنائية العاجلة أمام محكمة الجنح، بتهمة إيواء صحفيين صدر عليهم أمر قضائي بالضبط والإحضار!

وقضت محكمة جنح قصر النيل بمعاقبة الثلاثة بالحبس عامين مع الشغل وكفالة 10 آلاف جنيه، وبعد ذلك تم تخفيف الحكم في الاستئناف إلى الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ مدة 3 سنوات، ومنذ ذلك الوقت ظهرت السيطرة الحكومية الكاملة على النقابة ومهنة الصحافة، والتعامل الخشن مع الصحفيين بالحبس الاحتياطي لتخويف الآخرين، وتزامن مع الهجوم على النقابة إغلاق عشرات المواقع الإلكترونية وإحكام السيطرة على المؤسسات الصحفية التي تملكها الحكومة والصحف الحزبية والمستقلة والخاصة حتى أصبحت كلها ذات لون واحد.

حبس الصحفيين

الأكثر إيلامًا في ملف الصحافة المصرية هو التوسع في حبس الصحفيين بسبب آرائهم بما يخالف الدستور الذي ينص على منع حبس الصحفي بسبب رأيه، وقد ذكر النقيب الحالي ضياء رشوان في بيان له في ختام دورته الثانية أن عدد الصحفيين الذين استطاعت النقابة إخلاء سبيلهم في عهده خلال السنوات الأربع الماضية بلغ 50 صحفيا، منهم 32 صحفيا نقابيا و18 غير نقابي، ودعا النيابة العامة “بمناسبة انعقاد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، إلى اتخاذ قراراتها بالإفراج عن بقية الزملاء المحبوسين احتياطيا من أعضاء النقابة بضمانها أو بأي ضمان تراه”.

وتشير التقارير الحقوقية وأسر الصحفيين المحبوسين إلى أن ما يقرب من خمسين صحفيا آخرين -نقابيين وغير نقابيين- ما زالوا في السجون، وقد مضى على بعضهم أكثر من ثلاث سنوات، أي أنهم تجاوزوا مدة الحبس الاحتياطي القانونية، وبعضهم ممنوع من زيارة أهله، وبعضهم تجاوز الخمسين والستين من العمر، وظروفهم الصحية سيئة جدا لا تحتمل بقاءهم في الحبس كل هذه المدد الطويلة.

الحرية وأزمة الصحف

تظهر التصريحات والحوارات الصحفية والتلفزونية مع المرشحين المنتمين للمؤسسات الصحفية التي تملكها الدولة، أن مستقبل الصحف الورقية مظلم، وأنها تعيش النزع الأخير، وفي طريقها إلى الإغلاق إن لم تحدث معجزة، لكن لا مرشح يستطيع الحديث بحرية عن السبب الحقيقي للأزمة وهو انخفاض سقف الحرية وتحول الصحف إلى ما يشبه النشرات الحزبية، مما أدى إلى عزوف القراء عنها وتراكم المديونية عليها، ويبدو أنه لا أمل في أن تنتعش مرة أخرى.

أرقام التوزيع تشير إلى أن بعض الإصدارات لا يتجاوز ألف نسخة، وقد كان تصريح وزير الإعلام السابق أسامة هيكل عن مقاطعة المصريين للصحف وعدم تأثيرها سببا في الحملة ضده حتى تمت الإطاحة به. ومن جهتها تطلب الحكومة من المؤسسات أن تبيع أصولها لتسديد ديونها، وأن تعتمد على نفسها وأن تبحث عن تمويل بعيدا عن الدعم الحكومي، ولكن مع شرط مستحيل وهو البقاء تحت سقف الحرية المنخفض، والحديث فقط عن الإنجازات والدعاية للجمهورية الجديدة وعدم انتقاد الحكومة وألا تتحدث عن السلبيات ومعاناة الناس!

الخطر الذي يواجه ما بقي من الصحف المصرية الآن هو العجز المالي بسبب اختفاء الإعلانات، وتراجع التوزيع لضعف محتواها وتشابهها؛ فالمانشيتات واحدة، والموضوعات مملة ومكررة، وتم استبعاد الكتاب الذين لم يلتزموا بالانحياز التام للسلطة، ومعظم الكتاب المحترمين المستمرين في الكتابة فقدوا الحياد حفاظا على المساحات المتاحة لهم فانطفأ بريقهم، وكلما تم التهديد بوقف الدعم زادوا من جرعات التملق وإظهار الولاء أكثر فأكثر.

الحقيقة أن المؤسسات الصحفية المصرية إن استمرت في سياستها الحالية فإنها ستتجه إلى الانهيار التام وعرض أصولها للبيع، وحتى لو تم دمج ووقف الإصدارات الورقية لضغط النفقات والاكتفاء بالبث الإلكتروني فلن يتغير من الواقع شيء، فالعزوف الشعبي عن صحف الحكومة ليس مقتصرا على الورقية منها بل يشمل مواقعها الإلكترونية أيضا، ولن يجدوا من ينقذ صحفًا لا يقرؤها أحد في ظل التطورات الكبيرة لمواقع التواصل الاجتماعي والموبايلات الذكية الموجودة في أيدي غالبية المصريين.

انتخابات الصحفيين معركة رمزية، فإن حدث التغيير وجاء الصحفيون بمن يمثلهم ويدافع عنهم من الزملاء الذين يشهد لهم نضالهم النقابي بالدفاع عن المهنة، فسيكون ذلك بداية لاستعادة التوزان في العلاقة مع الحكومة، وتحقيق قدر من الاستقلال يحمي الصحفيين والصحافة من تغول السلطة، أما إن استمر اليأس والاستسلام للوضع الراهن فستطول المعاناة، وقل على المهنة السلام.

المصدر : الجزيرة مباشر