أديامان والزلزال على مائدة اللئام

 

كل ما تم تقديمه لتجاوز تداعيات الزلزال المدمر، من مساعدات إنسانية ومشاعر التكاتف والوحدة التي تولدت من طيات هذه الكارثة غير المسبوقة، قد كشفت عن مشهد ملحمي يزيد الآمال ويدعو إلى التفاؤل بالمستقبل. بيد أنه من الطبيعي أن تكون اللحظات الأولى للزلزال أوقاتا حرجة وصادمة للجميع، ولا مجال فيها للحسابات والدعايات أو حتى الرد على الافتراءات والتصريحات المغرضة.

فسرعة الاستنفار الشعبي وتحرك كل شخص وبذل قصارى الجهد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإسعاف المتضررين، لا شك مسألة ضمير لا يمكن تقليل قيمتها. إضافة إلى أن كل من نهض وأسهم في تخفيف ذلك العبء الثقيل، واجتهد لفعل ما هو ضروري في مواجهة الكارثة، يمثل نقطة بيضاء في جبين هذه الأمة، ورصيدا رائعا يُظهر أخلاقيات أبناء الوطن الحقيقية. وما يتم تداوله من صور قد تسيء إلى الأمة أو تُظهر بعض التصرفات الفردية السيئة، لا شك أنها لا تقلل من قيمة البطولات التي لا يصعب إحصاؤها بين دفتي كتاب، فمهما قدّمنا من بطاقات الشكر والتقدير للأمة فلن نوفيها حقها.

ليس من الإنصاف

وفي صورة عبثية يخرج علينا أحد السياسيين المعارضين في مدينة أديامان، بدعوى لا يظهر منها إلا مجرد المعارضة، فيزعم أنه لم تكن هناك أي استجابة تجاه مدينته، وأنه تم التخلي عنها في أول يومين من الكارثة، لكن لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلا فسيظهر جليا أنه مما حال دون التعامل الفوري الفعال والاستجابة المرجوة في أول يوم أو يومين من الكارثة، هو التأثير غير المسبوق الذي نتج عن الزلازل التي تكررت واحدا تلو الآخر، والتي أدت إلى إغلاق الطرق وتدمير البنية التحتية بجانب الطقس الشتوي السيئ وتساقط الثلوج. ولكن حتى في ذلك الوقت، ليس من الإنصاف أن ندّعي عدم وجود أي مساعدات أو دعم للبحث والإنقاذ، بل على العكس فقد خرجت مساعدات إنسانية عدة وجيوش من طواقم الإنقاذ من جميع أنحاء تركيا، إلى منطقة الزلزال وكانت عالقة في الطريق. وفي الواقع لم يكن هناك أي تهاون أو تقاعس في التعامل مع الكارثة، وباستكمال افتراءات ذلك السياسي الذي لا يكاد يكمل جملة أو جملتين بعد ذلك الادعاء في خطابه -فالمرء مخبوء تحت لسانه، ويظهر لحنه بين ثنايا حديثه- فسنستمع له وهو يشرح بنفسه كيف أنه على الرغم من تحركه منذ الساعة الأولى للزلزال متجها إلى هناك، فلم يتمكن من الوصول إلا في نهاية اليوم الثاني! وحينما رأى المشهد بعينه، يقول إن الموقف في تلك اللحظات الأولى يفوق طاقة كل القدرات البشرية الأهلية ومؤسسات الدولة، الأمر الذي يستحيل معه الاستجابة المثالية في تلك اللحظة، ورغم ما نطق به ذلك السياسي المعارض وما صوّره بنفسه من ضخامة الكارثة وصعوبة التعامل السريع، فقد تقدّم الرئيس أردوغان باعتذار للشعب التركي في أديامان وطلب منهم أن يسامحوه، لأن الدولة لم تتمكن من القيام بالتدخل المطلوب وتقديم الدعم والإغاثة اللازمة في أديامان والعديد من المناطق خلال اليومين الأولين.

وعلى أرض الواقع، ظهر تماسك تركيا مرة أخرى دولة وأمة في هذا الزلزال في صورة حقيقية لتكافل الأسرة التركية حين بادر الجميع منذ البداية إلى تقديم المساعدات للمناطق المتضررة من الزلزال، وليس ذلك فحسب بل احتوت بقية مدن تركيا أهالي هذه المناطق وتم استقبالهم في بقية المناطق التركية. ومن ناحية أخرى، لم يقتصر الأمر كما رأى الجميع على جهود الدولة التي بذلت قصارى جهدها، فقد كان في ميدان الحدث جيش من المتطوعين ومن جمعيات المجتمع المدني، إذ أدرك الجميع أن الموقف هذه المرة بالطبع كان مختلفا كليا عن المشهد عام 1999، وقد بذلت المئات من منظمات المجتمع المدني المعروفة أسماؤها والمعلنة للجميع، جهودا طيبة على قدر إمكاناتها في هذه الكارثة، لكنها بالطبع لم تضع نفسها بديلا للدولة في الميدان، ولم يقل أحد من المتطوعين أو من تلك المنظمات: أين الدولة؟ لا توجد دولة على الأرض.. فالحقيقة الملموسة أن وجودهم جميعا كان محدودا مقارنة بالدولة.

عدم التعاون مع أصحاب اللحى

وكان كثير من الموجودين في الميدان ينتمون إلى مجتمعات ذات أغلبية دينية ومحافظة، ومتطوعين من مجتمعات وطوائف، يمثل وجودهم نوعا من الإزعاج لبعض التيارات. وكان من الواضح أن هناك من انزعج من صيحات “الله أكبر” التي كانت ترتفع بعد نجاح كل عملية إنقاذ من تحت الأنقاض. ولم يتردد هؤلاء المنزعجون في التعبير عن انزعاجهم وعدم ارتياحهم، فقد ظهرت رغبات أخرى وطفت لدى بعض الأشخاص مشكلات ذات أهداف ومقاصد من نوع آخر غير الإنقاذ أو الدعم. ودعونا لا ننسى ما ذكرته سابقا، من أن الوجود ضمن عمليات المساعدات الإنسانية والمشاركة في الدعم والإغاثة، واجب أخلاقي وضمير إنساني، بل إن ذلك في الواقع دعوة عملية لا مجال فيها للأيديولوجيات والحسابات.

لكنها -مع الأسف- الرغبة الواضحة لدى بعض التيارات، في عدم الوقوف جنبا إلى جنب مع هؤلاء المتطوعين من أصحاب اللحى من تلك التجمعات الدينية، وعدم الظهور معهم ومشاركتهم في العمل تحت مظلة واحدة، رغم وجودهم الواضح ودورهم المؤثر في عمليات الإنقاذ والدعم في تلك المناطق، لا سيما وأن وجود الدولة هناك كان أكثر بكثير مما يعتقد هؤلاء المنزعجون، وأن عمليات البحث والإنقاذ وتقديم جميع أنواع الدعم تمت بنجاح ملموس على أرض الواقع. ومما زادهم إزعاجا حينما أرادوا من يجاريهم في رسم خيوط تلك القصة، وفوجئوا بجنود من المتطوعين يعملون في تجرد، فنهضوا إلى اختلاق قصة أوهى من بيوت العنكبوت، قصة “لا دولة في الميدان” تلك القصة التي نسجوا أحداثها في عقولهم بعيدا عن الواقع، وسعوا لصناعة أشخاصها وبهلواناتها في محاولة بائسة منهم لاستكمال حلقاتها، ويبدو أن “هالوك ليفنت” صاحب جمعية أحباب (Ahbap) كان الممثل المناسب للقيام بدور في القصة منذ البداية، لكن يبدو أنه لم يكن مدركا لتلك اللعبة.

بدأت الحسابات في كتابة منشورات على لسان هالوك ليفنت مثل: لا توجد دولة، وأنا لا أعمل بشكل جيد مع الدولة من أجل الوصول إلى الهدف، وأنا أعارضها لذلك. ثم يخرج هالوك وينفي ذلك، مصرّحا بأنه لا يوجد شيء من هذا القبيل على الإطلاق، ونحن لسنا ضد الدولة. وعندما ذهبت إلى أديامان، كان الوزراء موجودين هناك، قابلتهم وتحدثت معهم، ولا يمكن أن أنفي ذلك الآن، وأن هذه الشائعات المغرضة تستهدف جمعية أحباب. ويعترض هالوك على مقارنة جمعيته بغيرها، فيقول: “كيف تقارنونني أنا ومؤسسة أحباب بمؤسسة إدارة الكوارث التركية (آفاد – AFAD) على وجه الخصوص، والعدد الإجمالي للموظفين لدينا هو 30 شخصا، بينما لدى (آفاد) أكثر من 100 ألف موظف؟”.

حضور منظمة غولن الإرهابية

في الواقع، تُعَد مؤسسة أحباب واحدة من مئات المنظمات غير الحكومية العاملة في المجال الخيري، وهي بالفعل ليست المؤسسة الأقوى كما أوضح رئيسها ليفنت. وقال بنفسه: دعونا نتوقف عن مقارنتها بمؤسسة (آفاد) أو الهلال الأحمر التركي، دعونا نتوقف عن مقارنتها بهيئة الإغاثة الإنسانية (İHH) أو بجمعية بشير، أو بمؤسسة تورغاي (Türgey) أو باتحاد الأناضول. من الصعب جدّا عقد تلك المقارنة، حتى مع جمعيات ومنظمات مثل هذه، لأن كل هذه المنظمات، إلى جانب مئات المنظمات الأخرى، موجودة بنشاط أكبر في جميع الأنحاء، سواء في ما يتعلق بأنشطة البحث والإنقاذ أو بقدرات الدعم والإغاثة الخاصة بهم. ثم يجنح هالوك إلى طرح تساؤل عجيب، مستهزئا بعقول المتابعين، حين يقول: رغم وجود هذه المنظمات الضخمة، ما الذي جعل مؤسسة أحباب تتمتع بشعبية كبيرة بين العديد من المنظمات غير الحكومية، وكلها أكثر نشاطا وأكبر نفوذا؟!

وإليك الإجابة عن ذلك التساؤل، الحقيقة أن هالوك يشير إلى عملية مشبوهة ثابتة بالأدلة، نفذها بنفسه لإدخال حسابات منظمة غولن الإرهابية في هذا الموضوع، ولكن حتى لو لم يكن يشير إلى ذلك، فإنه ليس من الصعب معرفة أن شريحة خاصة من الأشخاص ذوي سيكولوجية معقدة تتجاوز منظمة غولن الإرهابية، لهم يد واضحة في هذه القضية المزعومة، وأنهم بحاجة إلى أداة أو قُلْ: دُمْيَة لتعويض غيابهم عن المشهد، وأنهم كانوا يسعون إلى صناعة ذلك الممثل ليؤدي دورا مختلفا عما كان عليه في أي وقت مضى. ونتيجة لتطلعاتهم سرعان ما طفا هالوك ومعه جمعية أحباب على السطح، لدرجة أنه تجاوز كونه ممثلا إلى أن وصل ليكون مجرد شيء في أيديهم.

الآن، إذا كنت تريد أن ترى ما المقصود من الأخبار المتعلقة بصفقة الخيام التي اشترتها مؤسسة أحباب من شركة تابعة للهلال الأحمر التركي، ومن يقف وراءها؟ فهناك ما كتبه صديقنا أرسين سيليك في مقال له، حيث جمع كل أبعاد الحدث بشكل جيد للغاية، وقد كشف بوضوح من يحرك ذلك الممثل، وكيف أن “اللي ما يعرفش يقول عدس” حسب تعبير المثل المصري.

المصدر : الجزيرة مباشر