كيف نحول اللغة العربية إلى مصدر لقوة الأمة وأساس لبناء مجتمع المعرفة؟

اللغة من أهم مصادر قوة الأمة السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، واللغة العربية قامت بدور مهم في بناء الحضارة الإسلامية، ونقل المعرفة إلى البشرية، وكانت اللغة العالمية التي تم استخدامها في تطوير العلوم. لكن كيف نعيد إلى اللغة العربية مكانتها العالمية، ونحولها إلى مصدر لقوة الأمة في القرن الـ21؟
واللغة العربية أم اللغات، كما برهنت على ذلك تحية عبد العزيز إسماعيل في دراستها التي استغرقت 10 سنوات لتتوصل إلى تلك النتيجة، وتقدم الأدلة على صحتها. وهذه الباحثة تميزت بصبرها الطويل وعلمها الغزير باللغات وشجاعتها العلمية؛ فأوضحت أن اللغة العربية هي اللغة التي علمها الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام، وهذه هي النظرية التي تتفق مع تكريم الله لآدم؛ فلكي يبني آدم وبنيه الحضارة؛ فإنهم يحتاجون إلى لغة تكون أساس الاتصال ونقل المعرفة.
لذلك كانت اللغة العربية هي الأكثر ثراء، حيث يوجد بها 16 ألف جذر لغوي تفتح المجال واسعا للاشتقاق والتركيب والتعبير عن المعرفة التي يحتاج الإنسان إلى نقلها إلى الآخرين في كفاحه لتعمير الأرض وبناء الحضارة. وهذه الحقيقة تشكل أساسا لبناء القوة؛ ذلك أن اللغة العربية مقدسة بحروفها وكلماتها ونسيجها الصوتي وأساليب كتابتها.
إنجاز العرب الحضاري
لذلك نزل القرآن -وهو كلام الله- باللغة التي علمها الله لآدم عليه السلام؛ فهي وحدها المؤهلة لحمل نور الله إلى البشرية، ولنقل المعرفة الإسلامية، ولأن تشكل أساسا لحضارة عظيمة.
وكان أعظم إنجاز حضاري قدمه العرب للبشرية هو محافظتهم على هذه اللغة التي تميزوا بحبهم لها، واعتزازهم بها، لذلك كانت الفصاحة والبلاغة من أهم مؤهلاتهم لقيادة العالم.
وجاء الإسلام ليحول فصاحة العرب وبلاغتهم وقدرتهم على الاتصال ونقل المعرفة بلغتهم الجميلة إلى قوة حضارية وثقافية، فأصبح العربي -الذي كان ينشد الشعر ويفخر بأصله الذي يبرهن على شرفه بفصاحته وبيانه- أستاذا للبشرية يحمل لها نور الإسلام، ويعلمها كلام الله (القرآن)، ويشكل وعيها بوظيفتها الحضارية، ويحررها بالمعرفة من العبودية لغير الله.
وتمكن العرب طوال القرون من المحافظة على الكلمات والنحو والصرف وقواعد صياغة الجمل، وتلك كانت الأسس التي تقوم عليها البلاغة وجمال المعرفة. كما قامت لغة العرب بدور مهم في توحيد الأمة بعد الإسلام؛ فالاتصال يكسر الحواجز والحدود، ويوجد الألفة والترابط والتماسك.
واللغة تساهم في بناء الهوية، والاعتزاز بها؛ لذلك تمكن العربي -الذي تميز بفصاحته وبلاغته وفروسيته- من أن يفكر ويبدع ويبتكر ويبني الحضارة؛ فالإنسان لا يمكن أن ينتج المعرفة إلا باستخدام لغته التي يعرف ما فيها من جمال؛ فاللغة ليست مجموعة من الكلمات تستخدم في التعبير عن معان، بل عملية اختيار يعبر عن الشخصية والذوق والحس الفني والتميز الأدبي؛ وثراء اللغة يمكّن الإنسان من اختيار الكلمات التي تعبر عن المعاني الجميلة؛ فتقدمها في أسلوب يزيد المعاني بهاءً وعلوًّا.
انطلاقة جديدة للبشرية!
اللغة العربية هي أعظم اللغات؛ فهي لغة مقدسة منحها الله بفضله لآدم عليه السلام. لذلك أنزل الله القرآن الذي وصفه بأنه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر : 28). وهذا يعني الكمال والاستقامة والبيان والوضوح. لذلك جاء القرآن باللغة التي كانت من أهم الأدلة على تكريم الله لبني آدم.
وهذه اللغة لا يمكن أن تتعرض لضعف أو عجز؛ بذلك شهد المستشرق الفرنسي أرنست رينان بقوله: “إن اللغة العربية بدأت فجأة في غاية الكمال؛ فليس لها طفولة ولا شيخوخة”.
وكذلك شهدت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه بأن اللغة العربية أضحت لغة العلماء؛ فكانت لغة العلم وحدها لا تنازعها تلك المكانة السامية أي لغة أخرى، واستطاعت استيعاب جميع العلوم التي بلغتها الحضارات الأخرى؛ مضيفة إليها علوما جديدة بمصطلحات جديدة، وبها كانت تؤلف الكتب، ويتحدث العلماء، ويديرون الحوارات فيما بينهم مهما اختلفت أصولهم.
لذلك كانت اللغة العربية من أهم مصادر القوة الحضارية والثقافية للأمة الإسلامية. لكن كيف نوظفها لبناء المستقبل، ونبني بها مجتمع المعرفة؟
الإجابة تحتاج إلى إبداع الأمة عندما تنتفض عقول العلماء والمثقفين والإعلاميين العرب ليشكلوا وعي الشعوب بمصادر قوتها، وكيفية استخدامها في مشروع حضاري جديد. واللغة العربية الفصحى هي بالتأكيد لغة ذلك المشروع الذي يمكن أن يحقق للأمة استقلالها الشامل، ويبني قوتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية، ومكانتها العالمية.
لغة ما بعد الاستعمار!
واللغة العربية يمكن أن تكون لغة البشرية في مرحلة ما بعد الاستعمار الغربي الذي فرض اللغة الإنجليزية على العالم، وتم تصويرها بأنها لغة النجاح في عالم الأعمال والسوق والبنوك والحصول على الأموال.
لكن الإنسانية أصبحت تحتاج إلى لغة للمعرفة والحضارة والجمال والحرية والاستقلال، ومن المؤكد أن اللغة العربية هي تلك اللغة التي يمكن أن تنطلق بها البشرية لبناء عالم جديد، كما انطلقت بها منذ بعثة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لبناء الحضارة.
وعلى الأقل هناك ملياران من المسلمين على هذه الأرض يشتاقون إلى هذه اللغة، ويتطلعون إلى أن يتعلموها عبادة لله.
هل أنا أعبر عن حلم جميل؟ نعم بالتأكيد. لكنني أدعو الأمة كلها إلى أن تحلم معي بالحرية والعدل والحضارة ومجتمع المعرفة. وأنا أثق بأن الأمة العربية ستنتفض في المستقبل لتبني الحضارة، ولتكرر تجربتها التاريخية بأساليب جديدة، وأنها مؤهلة لقيادة البشرية مرة أخرى.