كيف فتنت الصين المثقفين العرب؟!

احتجاجات في الصين، 26 مارس/آذار الجاري (رويترز)

 

استطاعت الصين أن تفتن الكثير من الكتّاب والمثقفين العرب في ظل تحولات كبرى تحدث الآن، ستتبلور هيئتها قريبا، بما يُمكنها من إزاحة الولايات المتحدة عن قيادة العالم.

نظرة هؤلاء، جاءت مواكبة لموجة من الغضب الشعبي على الدور الأمريكي في المنطقة، وتوجه سياسي لأنظمة عدة تبحث عن تحالفات جديدة، تحميها من التدخل الغربي في شؤونها، أو توفر لها الملاذ الآمن الذي أصبحت تفتقده في الغرب، خاصة بعد تجربة مصادرته أملاك الدول ورجال الأعمال، ومحاكمة الرؤساء الذين لا يسيرون في ركابه، كما يحدث حاليا مع القادة الروس.

فتنة العرب

فتنة العرب بالصين لم تقع فجأة، فحسب التجربة الذاتية التي مررنا بها وكثيرون في مطلع الألفية الثالثة، عندما نشطت الدبلوماسية الصينية، واستطاعت توظيف مواطنيها وشركاتها ومسؤوليها بالخارج، وفي ظل أفكار ساذجة، اعتقدنا إمكانية مساعدة الصين للدول العربية والنامية -دون شروط- في بناء نموذج اقتصادي ناجح لنهضة حديثة، وتحالف استراتيجي يعيد الحقوق العربية المسلوبة، ويحد من سيطرة الغرب على الثروات ومقدرات الشعوب.

كشفت دراسة ميدانية حديثة، أجراها معهد “بيو” للأبحاث في واشنطن، أن النظرة المتفائلة للعرب لم تأت من فراغ، وأنهم لم يقعوا وحدهم في غرام الصين. تبيّن الدراسة التي أُجريت على 6000 شخصية من 19 دولة، ذات أنظمة سياسية ومستويات اجتماعية وعلمية، وناتج محلي ومواقع جغرافية وعلاقات مختلفة مع الصين، تمتد من كينيا والسعودية وأمريكا الجنوبية إلى كندا وسنغافورة، وجود تشابه في الرؤى الإيجابية بين الدول العربية والأفريقية تحديدا، تجاه الصين، بعكس الاتجاه السائد بالدول الغربية والديمقراطية.

اللافت في الدراسة التجريبية التي شملت مقابلات ومشاهدات طويلة لأعمال فنية ورسائل إعلامية صينية وأمريكية، لفترة ممتدة من عام 2002- 2022، لإجراء تحليل عن دور الإعلام في توجيه الرأي العام، تذبذب هذه الرؤية لدى دولة الاحتلال “إسرائيل” من الانخفاض إلى الارتفاع، ثم تصاعد الصورة السلبية أخيرا عن الصين، رغم التحالف القوي بينهما في الصناعات العسكرية والتكنولوجية.

الصين بعيون عربية

تبيّن الدراسة تفضيل المواطن العربي والأفريقي ودول أمريكا اللاتينية، النموذج السياسي والاقتصادي الصيني، وأملهم أن تصبح الصين قائدة للعالم، خلال السنوات المقبلة، ووجود قناعة لدى 43% من المبحوثين بأن الصين لديها نظام سياسي ديمقراطي، واعتقاد 48% منهم بأن الشعب الصيني قادر على التعبير عن نفسه بحرية، وإيمان 25% بأن الصينيين يختارون قائدهم، باعتباره زعيما وطنيا.

تُظهر الدراسة تصاعد النظرة السلبية في دول حليفة اقتصاديا للصين، مثل اليابان من 70% عام 2002 إلى 90% عام 2022، وكوريا الجنوبية من 40% إلى 80%، وألمانيا من 30% إلى 75%، وإنجلترا من 14% إلى 75%، وفرنسا من 40% إلى 70%، وبولندا من 35% إلى 55%، وإسرائيل انخفضت من 45% إلى 25% ثم صعدت إلى 50%، وتراجعت عند 36% عام 2022.

كراهية الاستبداد

وجد العالمان يو شيه Yu Xie البروفيسور بجامعة برينستون الأمريكية، ويونغاي جين Yongai Jin البروفيسور بجامعة رينمين Renmin ببيجين، في دراسة تحليلية للبيانات المسحية التي أجراها معهد “بيو” ونشرها معهد الدراسات السياسية (CSIS) في واشنطن الأسبوع الماضي، أن المبحوثين بالدول الديمقراطية والبلدان ذات الدرجات الأعلى بمؤشر التنمية البشرية، هم أكثر عرضة لرؤية سلبية للصين، مدفوعين بالأيديولوجيا الداعمة للديمقراطية، وكراهية النظم الاستبدادية القمعية. فرغم احتفاظ الدول الغربية بعلاقات اقتصادية قوية مع الصين، باعتبارها الشريك التجاري الأول لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في مجموعه، وداخل تشكيلاته، بدول على رأسها ألمانيا، كما هي الشريك الأول لكوريا واليابان، فإن شعوبها لديها وجهة نظر سلبية متزايدة عن الصين، لمخاوفها أن يتسبب صعودها في القضاء على النظم الديمقراطية والقيم الليبرالية في أنحاء العالم.

رسائل عكس الاتجاه

أظهرت الدراسة أن قدرة وسائل الإعلام الصينية بالخارج على توصيل رسالة من السلطة المركزية، أحادية المضمون، منمقة وموحدة الاتجاه، تبنى نموذج الصين المتفوقة، دفعت أصحاب النيات الحسنة إلى قبول مضمون الرسالة. كانت المفاجأة أن الأشخاص الأكثر تعليما من الدول العربية والأفريقية على خلاف نظرائهم في الغرب، يملكون نظرة إيجابية للصين.

تبيّن الدراسة تأثر المتعلمين العرب بالرسالة المنمقة الأحادية الجانب، التي يجيد الإعلام الصيني نسجها عن التطور الاقتصادي للصين، وقدرته على تحقيق الرخاء ومكافحة الفقر وانسجام المجتمع، لعدم ذكره أي سلبيات حول القبضة الأمنية التي تمارسها السلطة ضد المواطنين، والقمع الوحشي مع الأقليات وخاصة من المسلمين، أو عودة الطبقية في مجتمع يعيش رأسمالية متوحشة، لا دور فيه لنقابات عمالية أو أحزاب ومؤسسات مدنية تصوب تلك التحولات القاتلة.

تكشف الدراسة أن الصورة السلبية عن الديمقراطية، التي تنشرها وسائل الإعلام عن الفساد السياسي والاقتصادي في الغرب، تدفع العرب وأشباههم إلى الخوف من تطبيق الديمقراطية، وفي حالة تخييرهم بأي نظام تحب أن تعيش، وفقا لجودة نظام الحكم، فيختار ثلثا المبحوثين الحياة في المجتمع الديمقراطي، خشية الوقوع تحت سلطة حزب سلطوي يقمع الحريات ويضيق المجال العام أمام المواطنين.

براغماتية الشيوعيين

أتت الدراسة في عصر تحولات كبرى تزلزل العالم، لتضع حدا لرسائل ناعمة وقعنا بها، جعلتنا ندعمها سنوات دون أن ندري! أدركنا أن الصين تبني نفوذا للترويج لسياساتها وصناعاتها، ولدعم اقتصاد لا تريد تكرار نموذجه، فقد استطاعت أن تملأ الفراغ السياسي الذي شهدته المنطقة، والواسع في عقولنا، فإذ بنا -قادة ومحكومين- ننقل رسالتها بسذاجة عبر الإعلام المحلي، دون وعي بالمشكلات الداخلية التي تعتصر الأمة الصينية.

اكتشفنا بعد سنوات أن النظام الشيوعي البراغماتي، يضع مصالحه القومية على قمة أولوياته، بعيدا عن أي تحالفات، ويدير الملفات الشائكة والمتناقضة وفقا لتلك المصالح، ويفرضها على حلفائه، كما يفعل مع الغالبية العظمى لشعب عريق يملك وجهات نظر متعددة حول القضايا العامة، ولكن قبضته الأمنية تدفع الرأي العام إلى طابور الأغلبية الصامتة.

المصدر : الجزيرة مباشر