حكومة التشيلي الجديدة.. حصاد عام دون المطلوب!!

الرئيس التشيلي غابرييل بوريش

 

أحيت حكومة غابرييل بوريش اليسارية، هذا الشهر، مرور عام على انتخابها من قِبل الشعب التشيلي، في إجراء بروتوكولي وسط أجواء باهتة وتعثّر واضح لتحقيق الرهانات التي رسمتها هذه الحكومة الطموحة. ومع أن التشيلي بلد لاتيني ناءٍ، إلّا أنها تحظى باهتمام ومتابعة جانب كبير من العرب، نظرًا لأنها تحتضن أكبر جالية فلسطينية في أمريكا الوسطى والجنوبية، والأكثر من هذا أن رئيسها بوريش يُعَد من أقوى الداعمين للقضية الفلسطينية، إيمانا منه بأنها قضية حق أُريد لها الوأد.

رفض مقابلة السفير الاسرائيلي

وقد شهدت السنة الأولى من حكم الرئيس بوريش حدثين متميزين في نفوس أنصار القضية الفلسطينية، إذ أعلن في ديسمبر/كانون الثاني الماضي نية حكومته فتح سفارة للتشيلي في الأراضي الفلسطينية، وقبلها، كان قد رفض استقبال السفير الإسرائيلي الجديد الذي تمّ اعتماده في سبتمبر/أيلول الماضي، في موعده، احتجاجا على موجة قتل مقصودة، مارستها إسرائيل على أطفال غزة في تلك الفترة. والحقيقة أن هذه المواقف لا تثير انبهارا لدى متابعي الرئيس بوريش، فالرجل يفخر بنصرته للشعوب المضطهدة ودعمه لكفاحها، وتتسم تصريحاته السياسية بانسجام تام مع أدائه، طوال كل المناصب التي تقلّدها. في المقابل، يرى الفلسطينيون داخل أراضيهم وخارجها مواقف بوريش أقرب إليهم من مواقف رئيس السلفادور بوكيله، رغم أن الأول ينحدر من أصول كرواتية، هاجر جدّاه إلى التشيلي لأسباب سياسية، والثاني من أصول فلسطينية، هاجر جدّاه الى السلفادور لأسباب سياسية أيضا، ومع ذلك فإن بوكيله لا يندد أبدا بوحشية إسرائيل وجرائمها، بل إنه يحرص دائما على التذكير بأنه صديق لها، ولا يتوانى في الانحراف بأي حديث سياسي عن فلسطين، نحو مغازلة الجمهور المسيحي السلفادوري بالتذكير بأن مسقط رأس جدّته هو بيت لحم، مسقط رأس المسيح عليه السلام، ويذكر جدّه المقدسي، في مقام ثانٍ، إن ذكره. إضافة إلى أن الفلسطينيين لم يغفروا لبوكيله زيارته تل أبيب عندما كان عُمدة عاصمة السلفادور، وصوره أمام حائط المبكى وفي متحف الهولوكست، وذلك تمهيدا لترشحه للرئاسة في 2018. ورغم تبرير البعض لانتهازية بوكيله ووعيه بأن مفاتيح رئاسة البلاد، لا يمكن نيلها سوى برضا إدارة البيت الأبيض، فإن الأغلبية ترى أنه ابن غير بارّ للقضية الفلسطينية.

احباط أنصاره

ورجوعا إلى رئيس التشيلي غابرييل بوريش، جاء حصاد سنته الأولى في الحكم دون التوقعات بكثير، وللتخفيف من وطأة الإحباط التي أصابت أنصاره، اضطر إلى القيام بثاني أكبر تعديل وزاري في أقلّ من سنة، طمعا في استعادة الثقة والإقناع لمنتخبيه وحتى لخصومه. وتتمثل إخفاقات حكومة بوريش في نقطتين أساسيتين: الأولى نتيجة الرفض التي جاءت في عملية التصويت على الاستفتاء على دستور جديد، بنسبة 62%، بدلا من دستور الديكتاتور العسكري بينوتشيه الذي تمّ تحريره بعناية وخبث دستوري فائق في 1980، ولم تتجرّأ أي حكومة سابقة على التخلص منه، باستثناء حكومة الرئيس اليميني السابق سيباستيان بينيرا (2018-2022) التي قبلت ذلك منصاعة في 2019 إلى مطالب أعنف احتجاجات اجتماعية شهدتها التشيلي خلال هذه الألفية، وقامت بالإجراءات القانونية لانتخاب أعضاء اللجنة التي ستحرر الدستور البديل. وذهب أغلب المحللين حينئذ الى أن دستور بينوتشيه يُمثل ورطة فعلية وعارا على التشيلي بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على طي صفحة جرائمه، لكن رفض الدستور البديل يعود إلى كيد سياسي في ظل هيمنة الخصوم، وافتقار حكومة بوريش إلى أغلبية تشريعية.

أما الصدمة الثانية، فتتعلق بعدم موافقة البرلمان على مشروع الإصلاح الضريبي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، الذي كانت حكومة بوريش تعدّه رهانها الذهبي، بوصفه العنوان الأبرز لسياستها الاجتماعية في الرفق بالطبقات الهشّة وفرض ضرائب تتلاءم مع دخول وأرباح الطبقات الثرية والمترفة.

معنويا، مثّلت هاتان النقطتان ضربتين موجعتين في مسيرة الرئيس بوريش اليافعة، لكنها في الحقيقة تعكس موازين المعركة بين الأحزاب اليسارية الماسكة بالحكم وخصومها الذين تتزعمهم الأحزاب اليمينية المتمكنة من مقاليد البرلمان.

الهجوم على قصر الرئاسة

هو في الحقيقة صراع دفين يتجدد مع فوز كل حكومة متمردة، صراع لم يهدأ منذ خمسين عاما، ولم يغفر غدر الديكتاتور العسكري بينوتشيه بالرئيس السابق اليساري سلفادور أيّاندي سنة 1973، عندما انقلب عليه بعد ثلاث سنوات فقط من حكمه، وقام بهجوم مسلح بالطائرات الحربية والدبابات على قصر الرئاسة لإخراجه بقوة السلاح ووضع نهاية لحكمه، لكن أياندي حينئذ فضّل الانتحار على الانصياع لإرادة بينوتشيه المتوحشة. ورغم أن التاريخ شهّر بجرائم بينوتشيه وأنصف البعض من ضحاياه، فإن تيارات سياسية نافذة ما زالت حتى الآن تقف حجر عثرة أمام أي مشروع أيّاندي، وتختار بالتالي -ولو دون قصد- صفّ جلّاده.

قد يكون من الجحود إغفال الأهداف التي حققتها حكومة بوريش، رغم أنها على قدْر من الأهمية بمكان، من ذلك تحقيق انتعاشة اقتصادية ملحوظة وارتفاع معدل الاستثمار الخارجي في التشيلي، وتقليص كلفة الخدمات الصحية الحكومية إلى حد المجانية بالنسبة للطبقات الفقيرة، لكن رفض الدستور الجديد ورفض مشروع الإصلاح الضريبي كانا رسالتين مؤلمتين سياسيا بشكل غطّى على كامل حصاد السنة الأولى لحكومة بوريش.

المصدر : الجزيرة مباشر