تشاووش أوغلو في القاهرة.. مسار التطبيع التركي المصري

الوزيران المصري والتركي (رويترز)

 

 

لم تتأخر زيارة وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو إلى القاهرة طويلًا، فبعد أقل من شهر من زيارة نظيره المصري، سامح شكري إلى مدينة أضنة التركية في السابع والعشرين من فبراير الماضي، جاءت الزيارة الأولى لوزير خارجية تركي إلى مصر منذ أكثر من عشر سنوات.

فزيارة شكري كانت لتقديم الدعم لتركيا في مواجهة تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد في السادس من فبراير الماضي، التي أطلق عليها البعض “دبلوماسية الزلازل”.

الزيارتان المتبادلتان فتحتا الطريق أمام البدء الفعلي لمشوار تطبيع العلاقات بين الدولتين الأكبر في المنطقة والأكثر ثقلًا من الناحية الجيوإستراتيجية.

مصر وتركيا.. ثقل إستراتيجي وإرث متوتر

تمتلك الدولتان موقعًا إستراتيجيًا مميزًا، بين ثلاث قارات (آسيا وأفريقيا وأوربا)، كما تشرفان على ثلاثة من أهم الممرات المائية في العالم (قناة السويس ومضيقي البسفور والدردنيل)، كما تمتلكان شواطئ ممتدة على خمسة بحار عالمية (المتوسط والأحمر والأسود ومرمرة وإيجة).

هذه الميزات الإستراتيجية عززتها قوة بشرية هائلة تقارب مائة وتسعين مليون نسمة.

هذه الميزات الإستراتيجية التي توافرت للدولتين عززها إرث تاريخي جمع بينهما عبر حقب زمنية مختلفة أبرزها ما بدأه السلطان سليم الأول لمّا ضم مصر إلى الدولة العثمانية عام 1517م، ثم عززه محمد علي باشا باستيلائه على السلطة عام 1805 وسعيه إلى تحديث الإدارة المصرية على النمط العثماني، الأمر الذي انعكس على الحياة المجتمعية في مصر التي شهدت حضورًا تركيًا مكثفًا سرعان ما خضع للتمصير شأنه شأن الكثير ممن وفدوا إلى مصر، لكنه ترك أثره في العادات والتقاليد واللهجة المصرية المشحونة بالكثير من الكلمات والعبارات التركية.

وللدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو -الذي نشأ وتعلم في مصر- كتاب مهم ضخم يتحدث فيه عن التأثير التركي في الثقافة المصرية، والكتاب كتب مقدمته عام 2008 رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان.

لكن هذا الثقل الإستراتيجي والتأثير المجتمعي، لم ينعكسا على العلاقات السياسية بين الدولتين، ليس من عام 2013 كما يظن كثيرون، بل يمكننا أن نعود بهذا البرود في علاقة الدولتين إلى عقود طويلة جاوزت سبعة عقود.

حيث تأثرت تلك العلاقة بأجواء الحرب الباردة وتوجهات السياسة الخارجية في كلا البلدين التي تصادمت في كثير من الأحيان نظرًا للتموضع المختلف لكليهما، فبينما اختارت تركيا الاصطفاف مع المعسكر الغربي داخل حلف الناتو وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في وقت مبكر جدًا، كانت مصر الناصرية تخوض معركتها ضد الاستعمار والإمبريالية وتتلقى ضربة شديدة عام 1956 عقب تأميم قناة السويس.

وفي المقابل فإن الجانب المصري كان يتمتع بعلاقات مميزة مع قبرص رغم الاضطهاد الذي كان يتعرض له المسلمون الأتراك في الجزيرة، ولم تعترف القاهرة بجمهورية شمال قبرص التركية حتى الآن، واقتصر اعترافها على الإدارة الجنوبية للجزيرة، بل وشهدت الفترة من عام 2013 حتى الآن تطويرًا إستراتيجيًا للعلاقة بين الجانبين.

هذه التقلبات التاريخية الحادة في علاقة البلدين من التبعية للدولة العثمانية ثم الندية إبان حكم أسرة محمد علي باشا، وصولًا إلى العلاقات المتوترة عقب تأسيس الجمهورية التركية ثم ذهاب حكم الأسرة العلوية، يفتح آفاقًا واسعة لتفسير علاقة البلدين وفهمها دون حصرها في الفترة التي أعقبت يوليو 2013 فقط.

هنا لا بد من الإشارة إلى الجهود التي بذلتها الحكومة الائتلافية التي قادها الراحل نجم الدين أربكان 1996 لتطوير العلاقات الثنائية حيث تمكن من إقناع حسني مبارك بانضمام مصر إلى مجموعة الثماني الإسلامية.

ثم شهدت علاقة البلدين تطورًا ملحوظًا عقب تولي حزب العدالة والتنمية حكم تركيا عام 2002، إذ تبادل مسؤولو البلدين الزيارات على أعلى مستوى حتى أن حسني مبارك زار أنقرة مرتين عام 2009، والتقى أكثر من مرة بعبد الله غل وأردوغان.

كما زار كل من غل وأردوغان مصر عقب ثورة يناير 2011 حيث توقع كثيرون أن علاقة البلدين متجهة صوب التمتين الإستراتيجي في ظل الصعود السياسي للإخوان المسلمين حينها.

لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، وسرعان ما انتكست العلاقات الثنائية إلى نقطة الصفر!

 مسارات التعاون ونقاط الاختلاف

حرص الوزيران خلال اللقاء الصحفي الذي جمعهما على عدم الحديث عن النقاط الخلافية بين الدولتين أو المرور عليها بشكل إجمالي وهذا أمر متفهم، إذ إنه بالرغم من مجالات التعاون المتعددة فإن نقاط الاختلاف تمثل إشكالية حقيقة تحتاج إلى مزيد من المباحثات المعمقة بين الطرفين كما سنوضح.

فرغم أن كثيرين توقعوا أن تسفر زيارة تشاووش أوغلو القاهرة عن عودة السفراء، لكن يبدو أنه تم إرجاء تلك الخطوة إلى ما بعد الانتخابات التركية، حيث تم التأكيد على أن تبادل السفراء سيتم الإعلان عنها في الوقت المناسب، دون تحديد أجل زمني، مع التأكيد من الطرفين على أن العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين لم تشهد انقطاعًا.

الملف الاقتصادي كان حاضرًا بقوة في المؤتمر الصحفي حيث حافظت الدولتان على العلاقات الاقتصادية ولم تتأثر كثيرًا بالأجواء السياسية المتوترة، لكن بالرغم من ذلك فإن حجم التبادل التجاري لا يزال دون المأمول إذ يبلغ قرابة خمسة مليارات دولار، الأمر الذي لا يناسب حجم الدولتين ولا الإمكانيات التي يتمتعان بها، وقد حرص تشاووش أوغلو على لقاء رجال الأعمال الأتراك الموجودين في مصر عقب لقائه سامح شكري، وذلك لبحث فرص تعزيز الاستثمارات التركية في مصر التي تعد سوقًا كبيرًا وواعدًا للمنتجات التركية.

ملف الطاقة كان حاضرًا في المؤتمر الصحفي إذ أكد وزير الخارجية التركي أن الجانبين أظهرا إرادة لتعزيز العلاقات في مجال الطاقة، حيث تعد تركيا مستوردًا مهمًا للغاز المصري ويهمها تنويع مصادر الطاقة ذات السعر المنخفض، إذ تمثل فاتورة الطاقة عبئًا كبيرًا على الميزانية السنوية لتركيا.

العنوان الأبرز في مجال التعاون المشترك، الذي أشار إليه المؤتمر الصحفي، كان بشأن التعاون المرتقب في الملفات الإقليمية، إذ عانت المنطقة العربية عقب ثورات الربيع العربي من فوضى هائلة نتيجة ضعف الحكومات المركزية، وتفاقم النزاعات المسلحة.

الفراغ الهائل الذي عانت منه المنطقة، أدى إلى تمدد النفوذ الإيراني حيث عجزت القوى الموجودة عن مواجهة ذلك التمدد، لذا فإن أهم ما يمكن أن يسفر عنه التطبيع المصري التركي على المستوى الإقليمي هو إعادة ملء ذلك الفراغ، والتعاون لحل أزماته المستعصية وفي مقدمتها الأزمة السورية، حيث أظهرت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري الأخيرة إلى دمشق عقب الزلزال أن القاهرة حتى الآن لم تغير موقفها من نظام الأسد فقد حرص شكري على التأكيد بأن زيارته ذات طابع إنساني، لنفي أي تفسيرات سياسية للزيارة.

كما قد تمهد المصالحة بين البلدين إلى إطلاق حوار إستراتيجي بين الدول العربية وبين تركيا انطلاقًا من الجغرافيا والتاريخ المشتركين وصولًا إلى بناء رؤية لتعزيز التعاون بين الجانبين بدلًا من التوترات غير المبررة والمصطنعة في كثير من الأحيان، خاصة وأن العلاقات التركية الخليجية تشهد صعودًا وتناميًا مطردين.

أيضًا كشف تشاووش أوغلو عن أن وزارة الدفاع التركية وجهت دعوة إلى الجانب المصري للمشاركة في ثلاث مناورات عسكرية ستقام على أراضي بلاده. مثل هذه الفعاليات من شأنها تعزيز الأنشطة المشتركة بين البلدين في الجانب العسكري حيث دأبت مصر على ممارسة مثل هذه الأنشطة التدريبية خلال السنوات الأخيرة مع اليونان والإدارة الجنوبية لقبرص، الأمر الذي لا تشعر معه أنقرة بالراحة.

هذه الملفات ستحتاج إلى جهد من الطرفين لتعظيم الاستفادة المشتركة، لكن المسكوت عنه في خلافات البلدين سيحتاج كما قال تشاووش أوغلو إلى “وجود عزيمة وإرادة سياسية قوية”، وتحديدًا الملفين الليبي وترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فهذان الملفان يمثلان أهمية إستراتيجية للدولتين.

فمصر التي تعد ليبيا عمقًا إستراتيجيًا لها غير راضية عن الوجود العسكري التركي في ليبيا، في وقت ترى فيه أنقرة وجودها العسكري الضمانة الحقيقية لضمان تنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي تتكئ عليها للحصول على حقوقها المشروعة في شرق البحر المتوسط وتتيح لها تشارك ثرواته والتنقيب عن الغاز.

كما يعد ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين أولوية إستراتيجية لأنقرة لمواجهة الأطماع اليونانية، لكن الأمر ليس سهلًا بالنسبة إلى القاهرة التي ارتبطت مع أثينا باتفاقيات وتفاهمات تخص ترسيم الحدود بين البلدين وتوزيع ثروات الغاز وصولًا إلى تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بالاشتراك مع دول أخرى.

وفي تقديري أن الدولتين ستعملان على تعزيز ملفات التعاون المشترك والدفع بها في واجهة العلاقات الثنائية، مع العمل على بحث الملفات محل الخلاف في أجواء أكثر هدوءًا، خاصة إذا ما أقدم الرئيس أردوغان على زيارة القاهرة حال فوزه بالانتخابات المقبلة.

المصدر : الجزيرة مباشر