الطعام جنة الصينيين.. ولا عشاء مجاني!

الرئيس الصيني شي جين بينغ وعضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي لي تشيانغ ومسؤولون آخرون يحضرون الجلسة الكاملة الثانية للمجلس الوطني لنواب الشعب في 7 مارس (رويترز)

 

الطعام بالنسبة للصينيين هو الجنة، وعندما ينقص يصبح هاجس الحاكم إقناع الشعب بتوافره، وإن لم يكن قادرا على ذلك. لم يشذ الرئيس شي جين بينغ عن غيره، فمنح شؤون الاقتصاد أولوية قصوى، في ظل تحديات للدولة غير مسبوقة، تستهدف بناء جيش عالمي المستوى، وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، وتحقيق وثبة كبرى للمشاركة في إدارة العالم بحلول العام 2035.

أدى انتشار وباء كوفيد-19 إلى صدمة غير مسبوقة للاقتصاد، ورغم حالة الطوارئ رسميا بداية العام فإن بيانات مكتب الإحصاء الوطني أظهرت انخفاضا لمبيعات التجزئة بنسبة 20.5%، والناتج الصناعي 13.5%، والاستثمار بالأصول الثابتة بنسبة 25%، خلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين، مع توقع بيانات أسوأ بنهاية مارس/آذار الجاري، لعودة انتشار الوباء.

أرقام متضاربة

يتوقع اقتصاديون أن ينكمش الاقتصاد البالغ 14 تريليون دولار بنسبة 6% خلال الربع الأول من عام 2023، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. يقول Larry Hu رئيس مجموعة ماكوراي الاقتصادية “من الواضح أنه سيكون الأسوأ منذ 50 عاما”، بينما يذكر Ting Lu كبير الاقتصاديين في بنك نومورا الياباني وجود مخاوف من التحول السلبي للاقتصاد مع عودة انتشار الوباء، بالإضافة إلى ارتفاع ديون الصين وانخفاض الحساب الجاري والاحتياطي النقدي، وارتفاع معدلات التضخم.

على النقيض من ذلك، تُظهر الحكومة بيانات نمو مذهلة للناتج القومي، وتبشر ببلوغه 5% خلال العام الحالي. رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الصين فجأة من 4.2% إلى 5.2% بنهاية 2023، مع انخفاضها إلى 5.1% في 2024. كان لافتا اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية بنشر تلك المعلومات، والترويج لها بكثافة مع وقائع اجتماعات المؤتمر السنوي لمجلس نواب الشعب واللجنة الوطنية للمؤتمر الاستشاري للشعب الصيني، الذي وافق بإجماع أعضائه على بقاء “شي” رئيسا لفترة ثالثة، قد تمتد إلى الأبد.

اختراق إعلامي

يعلم المسؤولون الصينيون أن اجتماع المجلس التشريعي أفضل وسيلة لإيصال رسائلهم إلى الغرب، عندما يتهافت الصحفيون على مقابلة المشرعين والوزراء للحصول على معلومات شحيحة، في ظل مجتمع مغلق. أعلن مكتب الإحصاء أن الناتج القومي بلغ 121 تريليون يوان في 2022، بزيادة 6 تريليونات عن 2021 (الدولار = 6.7 يوانات)، وخرجت بيانات من بنك الصين المركزي Bank of China، تُظهر نمو التدفقات النقدية إلى 266 تريليون يوان، بزيادة 28 تريليونا عن 2021، بما يعني إضافة 4.2 تريليونات دولار، توازي الناتج القومي لألمانيا الاقتصاد الرابع عالميا.

روج الإعلام المحلي للأرقام الرسمية، مستهدفا طمأنة الشعب على طعامه، رغم رصده سابقا 900 ألف حالة إفلاس بنكي، وإغلاق مليون مشروع خاص، وفقدان 6.2 ملايين شخص أعمالهم عام 2022، بزيادة 37.2% عن عام 2021، وفقا لمكتب الإحصاء.

نجحت الصين في تسريب رسائلها عبر الإعلام الدولي، الذي تلقف خبر رفع معدلات النمو، ليؤكد أهميته في إنعاش سوق الأسهم بالصين والولايات المتحدة معا، ليبشر بعودة الثقة بالاقتصاد العالمي، المُعرَّض للانزلاق في ركود عميق، تزداد حدته كلما ارتفع معدل التوتر السياسي بين الصين والولايات المتحدة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. حققت الصين اختراقا آخر، من خلال تضخيم الأرقام، بهدف إقناع الشعب بأن حكومته قادرة على الفوز في الحرب الاقتصادية مع أمريكا، وتحسين سمعتها المتعلقة بزيادة معدلات الفساد والتضخم والبطالة.

الأموال المجهولة

دفعت الدعاية الضخمة للحزب الشيوعي خبراء إلى إجراء تحليل دقيق لبيانات مكتب الإحصاء وبنك الصين، وتصريحات لي كه تشيك رئيس الوزراء المنتهية ولايته، لإظهار التناقضات التي وقعوا بها، أوضح صعوبة وجود الفائض المذكور من بنك الصين. وبمراجعة الميزانية العامة منذ 1993 حتى 2022، تبيَّن أن كل تريليوني يوان زيادة في التدفق النقدي بالبنك المركزي، تعني زيادة 1% في نسبة النمو للناتج الإجمالي، لذلك يستحيل أن تكون الزيادة قد بلغت 28 تريليونا عام 2022، ولتظهر دفعة واحدة، بعد فترة إغلاق سوداء استمرت 3 سنوات، انخفض بها معدل النمو إلى 3% سنويا، لدرجة هي الأسوأ منذ 40 عاما.

أعادت الأرقام المعيبة حديث الناس عن اختفاء 1.9 تريليون دولار التي ذكرها المحلل المالي، الذي عرضناه في المقال السابق، مستشهدين بما قاله الملياردير مارك موبيوس “أبو الأسواق الناشئة” بأن الصين تتجه إلى الخلف، عن المسار الذي وضعه مهندس الإصلاح الاقتصادي دنغ هيساو بنغ.

بدأ الناس يستفسرون عن مصير نحو تريليوني دولار، بحسابات الموازنات الختامية خلال فترة الوباء، تعادل نحو 10% من الناتج الإجمالي. يناقش المدونون إمكانية احتفاظ فروع الشركات الحكومية بالخارج، أو عبر شركات مشتركة معها، بالأموال المستحقة عن بضائع صينية خرجت من البلاد، ولم تأت قيمتها إلى الميزانية العامة، خلال عامي 2021 و2022.

لا عشاء مجاني

يعتقد البعض باستخدام الحكومة المال لسداد ديون خارجية غير معلومة، أو تصفية مستحقات مستثمرين أجانب، أو أن الأرقام تعبّر عن فائض تجاري زائف. يشير خبراء إلى رغبة “شي” في تحسين علاقاته بالولايات المتحدة، بتوظيف الفائض المالي لمنع انهيار سوق الأسهم الأمريكية، خشية أن يؤدي بالتبعية إلى انهيار مماثل بالأسهم الصينية، باعتبار أن الطرفين هما أكبر شريكين تجاريين لكل منهما، وأن بقاء أحدهما على القمة مرهون بقوة الآخر. يستشهدون بسكوت الإعلام الغربي عن مناقشة أزمة اقتصاد الصين ومصير الأموال المختفية.

حدّد آخرون 8 وسائل لتهريب الصينيين الأموال بمليارات الدولارات سنويا، عبر رجال أعمال ومسؤولين فاسدين، يشترون جزرا خاصة وعقارات في الولايات المتحدة وكندا وأنحاء العالم، ويديرون معاملات لتبادل الدولار باليوان عبر مشتريات بالصين وتبادل قيمتها بالخارج، وشركات تتولى تحويل الأموال لشراء أصول ومعدات واستشارات وتعويضات وهمية، ومبادلة للمشتريات والتحويلات عبر الأفراد والعائلات حول العالم.

يؤمن المسؤولون بمقولة الزعيم ماو تسي تونغ “لا عشاء مجاني”، لذلك لا تتم صفقة حكومية إلا بتحقيق مصلحة مع قائمين عليها، فخبرتنا تؤكد أن الفساد في الصين يتحصن بالسلطة، ولا يظهر أثره إلا بحروب صفرية بين رموزها، فلا يوقفه أحد مهما انتشرت رائحته، طالما ظل الطعام موجودا على الموائد.

المصدر : الجزيرة مباشر