السينما و«المايوه»!

انتصار (يمين) وإلهام شاهين (يسار) وفي الوسط مريم فخر الدين في فترة الستينيات

 

عندما تغلب التفاهة، يصبح السؤال المحوري عن السينما النظيفة، ليتم تلخيص الإجابة في أنها تعني عدم ارتداء «المايوه»، وذلك في وقت تنهار فيه صناعة السينما، حتى توشك أن تنقرض مهنةً، وتختفي فنًّا، وتصير مثل الغول والعنقاء والخِلّ الوفي!

سئلت ممثلة متواضعة الكفاءة، في مقابلة تلفزيونية، عن رأيها في الدعوة إلى السينما النظيفة، فاندفعت تعلن حزنها لعدم السماح للممثلات بارتداء «المايوه» كما كان يحدث في الأفلام القديمة، وكأنه إذا سُمح بذلك حُلّت أزمة السينما، ونجحنا في مسار التفوق، وكأن غيرنا نجحوا في ذلك لأن الممثلات يرتدين «المايوه» ويسبحن بقميص النوم!

وهو سؤال تكرر في كثير من المقابلات التلفزيونية في الآونة الأخيرة، لدرجة أنه أصبح سؤال الساعة، ولم تكن الممثلة “انتصار” آخر من تم توجيه السؤال إليهن، كما لم تكن “إلهام شاهين” أول من تم توجيهه إليها، وهو سؤال كاشف عن قصور مهني جسيم، عندما يُعد المنتج أسئلته على عجل، ويكون هدفه الإثارة لا سيما وأنه في كل مرة يُطرح السؤال، يكون الحديث عن «المايوه»!

الجهل المطاع

سؤال السينما النظيفة قديم إلى حد ما، وكان يُوجَّه في السابق إلى أهل الاختصاص، وليس إلى مجرد ممثلات يعانين من حالة الجهل المطاع، وقد كانت الثورة سببًا في اندفاع إلهام شاهين، لتخطي الرقاب في مجال الفكر والثقافة، وتتحدث من أنفها كما لو كانت فؤاد زكريا، أو حسن حنفي، وهي ظاهرة سمحت بها حالة الاستقطاب السياسي، في حين أن جدارة إلهام شاهين في أن تُحسَب كممثلة جيدة مشكوك فيها من حيث المبدأ، ناهيك عن انهيار المستوى الذي سمح بأن تكون “انتصار” ممثلة من الأساس، فليس من بين ممثلات هذا الزمان اللاتي انشغلن بالتنظير، من نجحت في مجالها، وليس من بينهن فاتن حمامة، أو أمينة رزق، أو كريمة مختار، أو سهير البابلي، أو عبلة كامل!

ولم تكن مثل هذه الموضوعات مجالًا للنقاش مع الفنانات إنما موضوع للنقاش بين الكتّاب والسينمائيين المثقفين، في وزن جلال الشرقاوي، ونور الشريف، وربما محمد صبحي، وذلك عندما بدأ الحديث عن اصطلاح السينما النظيفة، وهي سينما العائلة، التي تُمنع فيها المشاهد الساخنة، والحديث الهابط، بما يسمح لأفراد الأسرة أن يلتفوا حول الفيلم في المنزل أو دور العرض، بدون حرج، وكانت القنوات التلفزيونية الرسمية في السابق تراعي ذلك، ولم يكن المقابل للسينما النظيفة هو «المايوه»، كما كان يحدث في سالف العصر والأوان!

والموضوع فيه آراء راقية، يؤخذ منها ويُرد، قبل أن تدخل طائفة من الجاهلات مجال التنظير الفني، ويصبح أمر الرفض كما لو كان موجَّهًا إلى تيار ديني بعينه، ويدور في البيوت المحافظة، وكانت هناك رغبة في أن تخاطب السينما أكبر شريحة في المجتمع، وألّا تظل أسيرة لأفلام المقاولات حيث السؤال الأثير: قصة أم مناظر؟ الذي كان يطرحه المراهقون أمام دور السينما، وقد قطعت السينما شوطًا كبيرًا في تحولاتها لإرضاء الذوق العام!

موقف حرم زعيم اليسار

ولم تكن حرم زعيم حزب التجمع الوطني الوحدوي (اليساري) خالد محيي الدين تعبّر عن جماعات الإسلام السياسي عندما أرسلت إلى القائم على التحرير في مجلة “روزاليوسف” عادل حمودة تستنكر زيادة جرعة الموضوعات المثيرة جنسيًّا في عهده، لتقول له إنها صارت تستشعر الحرج من أحفادها في اصطحاب المجلة إلى بيتها.

فسؤال الإثارة لم يكن قاصرًا على السينما وحدها، ولكن على غيرها من مطبوعات، وأدب كان يُضبط إيقاعه على ما يطلبه الغرب، لكن تأثير الأدب لم يكن أزمة، فالروايات لا تجد سوقًا رائجة، وإنما اقتصر الأمر على الدراما، والسينما من بينها، وهو سؤال كان يُطرح في زمن كانت لدينا فيه أعمال درامية كبيرة، ولم يكن يغيب عن فطنة أحد أن الكاتب الذي يملك أدواته لا يحتاج إلى الابتذال في مشاهده ليجذب الزبون، ولم يجد كاتب مثل أسامة أنور عكاشة نفسه في حاجة إلى اختلاق مشاهد مبتذلة ليجذب المشاهدين لأعماله، وكذلك غيره من كتّاب الدراما، فالابتذال كان عندما تراجعت الدولة عن مهمتها، وتخطى الرقاب السبكي وإخوانه، وأيضًا لم يكن النقاش يدور حول استدعاء زمن «المايوه» في السينما!

لقد عرفت سينما الستينيات هذا اللون من المشاهد، لأنها كانت مرحلة تقليد للسينما العالمية، ولم تكن السينما المصرية قد شقت قناتها، بل إن أفلامًا نجحت نجاحًا كبيرًا بعيدًا عن المشاهد الساخنة، وهل ينكر أحد نجاح فيلم “شيء من الخوف” رغم أنه لم يعرف هذه المشاهد؟ وقد بدأت السينما المصرية تشق طريقها، فابتعدت عن هذه المشاهد التي ارتبطت بسينما “الترسو”، عندما يكون “الأفيش” الساخن وسيلة دعاية للمراهقين في الأعياد والمواسم، وبدأت السينما المصرية تحرص على أن تكون جزءًا من المجتمع، في حين كانت السينما في زمن الأبيض والأسود تعبيرًا عن طبقة في المجتمع، فلم تكن الطبقة المتوسطة، والفقيرة بطبيعة الحال، تعبّر عنها سينما «المايوه»، ولم يكن «المايوه» وحده هو التعبير عن سينما الابتذال!

للتفاهة ناسها

ولا شك أن تطورًا حدث في ثقافة المجتمع، جعل من الظهور بملابس البحر، أمرًا مرفوضًا، مرتبطًا في زاوية منه بالاحتشام، وعملية تغريب السينما لم يكن سيضمن لها النجاح، بل كان سيعطي الاتجاهات المتشددة مبررًا للاستمرار في تحريم الفن.

ومهما يكن فقد كان «المايوه» مرتبطًا بنمط جمالي بعينه، جعل من ظهور الممثلات به على هذا النحو، وإن مثّل تجاوزًا، فإنه لم يكن إسفافًا في الشكل، وليس بين الجيل الحالي من الممثلات من هي فاتن حمامة، أو مريم فخر الدين، أو ممثلة “حمام الملاطيلي”، ولك أن تتصور إذا ظهرت إلهام شاهين، أو انتصار، بـ«المايوه»، حيث لم يمنعهما أحد من الظهور به على صفحاتهما الخاصة، فما الذي يمنعهما من ارتداء «المايوه» ونشر صورهما على المارة عبر صفحاتهما الشخصية؟

عندما يغيب الموضوع، يجري مثل هذا الحديث المبتذل، ولا يوجد فيلم واحد يشار إليه بالبنان في السنوات العشر الأخيرة لنجاحه، وانهيار صناعة السينما هو الأولى بالنقاش، ولم يحدث الانهيار لحرمان الممثلات من الظهور بـ«المايوه»، وبثقافة «المايوه»، فإن كثيرات ممن دخلن مجال التمثيل لا يصلحن “لبّيسات” للنجمات، يجهزن ملابسهن بما يتناسب مع أدوارهن!

للتفاهة ناسها!

المصدر : الجزيرة مباشر