“هي فوضى”.. سلخانة حاتم للتعذيب البشري

خالد صالح في دور "حاتم"

 

من سجن العقرب (بدر حاليا) خرج هذا الأسبوع بيان وقع عليه محبوسون ومعتقلون في السجن، تناول البيان أوضاعا إنسانية مريرة تدهس المشاعر الإنسانية وموجعة، ما بين حالات انتحار راح ضحيتها من فقد أمله في النجاة، ومحاولات للتخلص من الحياة، وروايات تحكي مآسي ومظالم يتعرض المحبوسون لها. قبل البيان، انتشرت رسائل من أهالي المعتقلين المحبوسين والمُخفَيْن قسرا، روت فيها أمهات وآباء وزوجات وأشقاء مآسي أخرى عن مسجونين ومُخفَيْن، رسائل وصفها صديق بأنها أقرب إلى رسائل المصريين قديما إلى آل البيت، وطالب الصديق الحقوقي منظمات حقوق الإنسان بالسعي لحل شفرات ومآسي الرسائل، وتذكرت على أثر هذه الرسالة سلخانة “الصول حاتم” في فيلم يوسف شاهين الأخير (هي فوضى).

سلخانة حاتم

“هي فوضى” إنتاج 2007، أخرجه شاهين بالاشتراك مع خالد يوسف، وقد مرض شاهين أثناء التصوير فاستكمل خالد يوسف الفيلم، الذي تدور أحداثه داخل قسم شرطة في عام 2005، وفي أثناء الاستعداد لانتخابات مجلس النواب، وكذلك أول انتخابات رئاسية تنافسية في مصر التي جرت تحت ضغط دولي كبير، فكانت أهم انتخابات أُجريت في عصر مبارك، حصلت فيها المعارضة على عدد كبير من مقاعد مجلس النواب، وكذلك نافس أيمن نور في انتخابات الرئاسة، وحصل على نسبة أصوات عالية مقارنة بما كان يحدث من قبل في الاستفتاء الرئاسي.

وفي أجواء سُمح فيها للمعارضة بالتحرك، وبعيدا عن أي ظروف دولية أو داخلية في ما يخص وضع مبارك وعلاقاته مع أجهزة الحكم في نظامه، وفي ظل تنامي معارضة لاستكمال مبارك دورات رئاسية جديدة، وميلاد حركات معارضة جديدة مثل “6 أبريل” و”كفاية”، وفي ظل تنامي دور جمال مبارك ولجنة سياساته.

ظهر فيلم يوسف شاهين الجديد الذي يتعرض لممارسات الداخلية في الأقسام، وانتشرت في تلك السنوات تسريبات من داخل أقسام الشرطة عن التعذيب الذي تمارسه وزارة الداخلية داخل مراكزها، حتى تحولت إلى سلخانات تعذيب. بدأت تنتشر القصص من حكاية عماد الكبير، مرورا بخالد سعيد، ونهاية بسيد بلال، تلك الأحداث التي صاحبت عرض الفيلم وبعد عرضه بسنوات، وكانت أهم أسباب مظاهرات 25 يناير/كانون الثاني 2011.

قانون حاتم

حاتم بطل فيلم “هي فوضى” بلطجي أقرب منه إلى شرطي، يُذكرك بفتوات نجيب محفوظ الأشرار في الحرافيش، ومن أول لقطة يوضح لنا ناصر عبد الرحمن مؤلف الفيلم ويوسف شاهين أننا أمام قانون يحكم البلد، هو قانون حاتم (خالد صالح). لقطات أولى للفيلم من مظاهرات ضد نظام مبارك، شرطة تهاجم المتظاهرين، حشود أمن مركزي تفرق المظاهرة، ويتم إلقاء القبض على عدد من المتظاهرين، وداخل قسم الشرطة يُفرض حاتم قانون “ما فيش قانون هنا غير قانوني أنا قانون حاتم”، لا دستور ولا نيابة، ولا حقوق سوى حقوق حاتم، فحاتم هو مصر، ومصر هي حاتم، “واللي مالوش خير في حاتم، مالوش خير في مصر”.

حاتم الذي أدى دوره ببراعة الموهوب الراحل خالد صالح (من الممثلين القلائل الذين خرجوا من عباءة تمثيل شاهين في أفلامه). حاتم يتحكم في القسم كما الشارع كما الحي، يسيطر على المأمور ورئيس المباحث، يتستر على جرائمهما كما يتستران على إتاواته وتعذيبه للمتهمين السياسيين، وحين يموت أحد السجناء نتيجة التعذيب، لا مانع من إلقاء جثته في النيل أو في الصحراء، والقسم لا يعرف عنه شيئا، وعندما تقرر النيابة الإفراج عن معتقلي التظاهر، ولأن الانتخابات على الأبواب، و”مش عايزين دوشة” بحسب رئيس المباحث، فلا مانع من إخفاء المتظاهرين في سلخانة التعذيب داخل قسم الشرطة تحت رعاية حاتم، فلا قانون إلا قانون حاتم، وحاتم لا يُحاكَم، فقد أخذ الأمان من أكبر مسؤول “ما فيش حاتم ها يتحاكم”.

حاتم ونور وبهية

بهية حاضرة دائما في أفلام يوسف شاهين، وفي “هي فوضى” كانت بهية هالة فاخر، وبهية هي المعادل للوطن لدى شاهين، ونور بطلة الفيلم هي امتداد بهية وابنتها.

حاتم أمين الشرطة أو بلطجي الحي، والمتحكم في كل أهل الحي، يعشق نور (منة شلبي)، يريد أن يمتلكها ويتزوجها، ونور تحب وكيل النيابة شريف حافظ (يوسف الشريف).

في سبيل نور، يحاول حاتم الحصول عليها بكل الطرق، يذهب إلى شيخ بإحدى الطرق الصوفية، يذهب إلى قسيس في الكنيسة لكي يساعده على الوصول إلى نور، وحين يرفض يهدده “ما فيش قداس، ما فيش احتفالات، ما فيش شموع”، يجرب عن طريق الشعوذة والأعمال، لا طريق إلى نور، ولا يجد حاتم الذي لم يتعود رفض أي شخص لطلباته إلا أن يغتصب نور، وفي الاغتصاب تكون نهايته.

الأمل في رجال العدالة

كانت سنة إنتاج الفيلم 2007 هي قمة ظهور لدور النيابة والقضاء في مصر، مارس أبناء النيابة دورا مهمّا في إعادة كثير من الحقوق إلى المصريين، وكانت أملا كبيرا لهم، ويرى صناع فيلم “هي فوضي” أنهم الأمل في تغيير الأوضاع، هكذا كان أمل نور في شريف وكيل النيابة، فالعدالة دوما هي حلم المظلومين في سلخانة حاتم، سواء في أقسام الشرطة أو في سجونه، سواء كان العقرب أو بدر أو المستقبل أو الأمل.

كان حادث اغتصاب نور هو مفتاح القضاء على دولة حاتم، يتستر مأمور القسم على مساعد حاتم الذي سهّل له عملية الاغتصاب، وكذلك رئيس المباحث المتواطئ مع رجال الحزب الوطني (الحاكم حينئذ)، لكن يظل وكيل النيابة يبحث عن دليل اتهام حاتم حتى يجده في القسم.

بينما تقود بهية ونساء الحي -أمهات السجناء ظلما- أهالي الحارة إلى الثورة على ما يحدث في قسم الشرطة من تعذيب وإخفاء لأبنائهم، وتتداعى الحارة كلها إلى القسم يهاجمونه، ولا يجد المأمور ورئيس المباحث إلا التضحية بحاتم حفاظا على أوضاعهما، ولا يجد حاتم الذي لا يُحاكَم إلا الانتحار طريقا للخلاص من غضب أهل الحي.

“هي فوضى” واحد من أجمل الأفلام المكتوبة سينمائيا في فترة إنتاجه، فقد أجاد ناصر عبد الرحمن كتابة السيناريو والحوار، وكان متميزا جدا، خاصة في حوار شخصية حاتم، ومن اللقطات الأولى للفيلم.

قدّم عبد الرحمن للسينما المصرية 10 أفلام، بدأها بفيلم (المدينة) مع يسري نصر الله عام 2000، وآخر فيلم له (18 يوم) عام 2011 مع عشرة مخرجين منهم شريف عرفة ويسري نصر الله ومروان حامد، ولم يقدّم فيلما بعده حتى الآن، أي أنه أمضى سنوات نضحه الإبداعي بعيدا عن السينما!!

المصدر : الجزيرة مباشر