ربما كانت المعارضة أكثر سوءًا من الأنظمة

يحيى حسين عبد الهادي

 

 

توقفت كثيرًا أمام البيان الذي أصدره قبل أيام قليلة، أحد قادة ما يسمى “التيار المدني” في مصر، المهندس يحي حسين عبد الهادي، الذي أراه على قدر كبير من الأهمية، بعد أن تفرد من خلاله، بالمطالبة بالإفراج عن المعتقلين جميعهم دون استثناء، ممن أدينوا أو حبسوا بوساطة نيابات ومحاكم أمن الدولة، وإلغاء كل ما صاحب ذلك من قرارات وأحكام بالتحفظ، وردّ الجنسية إلى كل من سحبت منهم، أو أجبروا على التنازل عنها، وتأمين عودة المصريين كلهم من المنفى دون ملاحقة، ورأى البيان أن هذه المطالب تعد بمثابة نواة معلنة لبرنامج المرشح الرئاسي الذي يجب أن تدعمه الحركة في المستقبل.

هذا البيان، أعدّه بمثابة نقطة ضوء وسط ظلام دامس يمثله هذا التيار، بل وربما المعارضة المصرية (الرسمية) بشكل عام على مدى الأعوام العشرة المنتهية، التي نستطيع القول إنها كانت امتدادًا لسنوات طويلة من الديكور السياسي، إلا أن إدارة الأوضاع في السابق كانت تتم من خلال خبراء يجيدون فن الإخراج الجيد، على خلاف كوادر ومشتاقي المرحلة، الذين يمكن استغراقهم في حوارات وهمية، أو تيارات هوائية، لا تسمن ولا تغني من جوع.

إبراهيم شكري وحلمي مراد

في الماضي، وباستثناء أشخاص يعدون على أصابع اليد، في مقدمتهم الراحلين المهندس إبراهيم شكري، والدكتور محمد حلمي مراد، كنت في مرحلة الشباب أرى أن المعارضة المصرية أسوأ من النظام الحاكم، أو بمعنى أوضح: القائمين على أمر النظام من حزبيين وحكوميين كانوا أفضل كثيرًا على المستويين الشخصي والوطني من أعضاء المعارضة وقياداتها، خصوصًا من يطلقون على أنفسهم الناصريين واليساريين، هؤلاء الذين اعتادوا التكسب والترزق من الأحداث الراهنة كلها، داخلية كانت أو خارجية.

هذه هي الحقيقة التي ما زالت ماثلة للعيان بالوثائق والمستندات، بدءًا من كوبونات نفط الرئيس العراقي صدام حسين، مرورًا بحوالات العقيد الليبي معمر القذافي، وصولًا إلى الدعم الخارجي للجمعيات الأهلية والمنظمات الحقوقية في صور وأشكال عديدة من أنظمة وعواصم مختلفة، وهو ما كشفت عنه الكثير من القضايا التي تم تقديمها للقضاء، وكثير غيرها لم تقدم لأسباب معلومة.

كان كل ذلك وغيره سببًا في إحجام البعض، وربما الكثير من أفراد الشعب عن المشاركة السياسية بأي حال من الأحوال، علّ الأوضاع تتغير والظروف تتبدل بعد 25 يناير 2011، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن كما هو واضح، فكان ما كان من نخب لا طعم لها، وأحزاب لا لون لها، فلا عجب إذن أن نسمع من بين مرشحي الرئاسة السابقين من يطالب بالإفراج عن (عدد معتبر) من المعتقلين، وآخر ممثلًا لما تسمى أحزاب التيار المدني يطلب الإفراج عن 20 إلى 30 معتقلًا، على اعتبار أن بقية المعتقلين والسجناء لا ينتمون إلى (تيار الشلة) المشار إليه، بالتالي ليس من حقهم الحرية، وربما الحياة.

المتابع لحركة الشعوب العربية بشكل عام في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية، سوف يفاجأ بنجاح الأنظمة، ليس في صناعة عملية الاستقطاب والتشرذم الواضحة فقط، بل في صناعة المعارضة نفسها، وجعل هذه الأحزاب وتلك التيارات أسوأ من الأنظمة في التعامل مع الأحداث، بما يجعل من عملية توسيع دائرة المشاركة الشعبية ضربًا من الخيال، نتيجة عدم الثقة من جهة، ومن جهة أخرى استمرار الممارسات العقيمة التي لن تؤدي في نهاية المطاف إلى أية نتائج إيجابية.

على صعيد الأوضاع في مصر على سبيل المثال، سوف يلحظ المتابع للأحداث، ذلك التشفي الشعبي فيما آلت إليه الأوضاع، على اعتبار أنها صنيعة النظام، ومن ثم عليه تحمل العواقب!!، بل سوف نجد فئات المعارضة المختلفة تتشفى في الشعب نفسه، على اعتبار أنه يستحق ذلك، ما دام استكان للظلم ولم يعترض، مواقع التواصل الاجتماعي كما سجالات المقاهي والمنتديات تعج بهذه المواقف، التي تنم عن حالة من اللاوعي غير مسبوقة في تاريخ الأمم، وهو الأمر الذي ينذر بتفاقم مثل هذه المواقف وتطورها إلى مواجهات أكثر حدة، بتطورات الأوضاع الجارية.

الزلزال

على الصعيد السوري، نذرف الدموع عندما نرى الدماء تسيل، جراء المواجهات على مدار عشر سنوات مضت، في ظل لا مبالاة من النخبة، التي تتفاخر بين الحين والآخر بأن أتباعها قتلت (والحمد لله)!! عددًا كبيرًا من أتباع النظام اليوم، أو العكس، حتى جاءت تلك الفاجعة ممثلة في ذلك الزلزال المدمر، لتكشف أن ردود الفعل كما هي لم تؤرقها الكارثة، ذلك أننا شاهدنا من يطالب بعدم إرسال مساعدات عن طريق النظام الحاكم، أو العكس أيضًا، فيما يشير إلى أن أمر التشفي والاستهانة بالدماء، قد بلغ مبلغًا يندر الشفاء منه، أو يصعب تجاوزه.

الأمر ليس أفضل حالًا على الصعيد اليمني، أو العراقي، أو اللبناني، أو السوداني، أو حتى التونسي، بما يشير إلى أن الشعوب العربية في مجملها بها حاجة إلى إعادة نظر، تنطلق من قول الله تعالى {إِنَّ الله لَا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوُا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ذلك أن الأنظمة المستبدة هي المستفيد الأول من هذه الممارسات، التي تؤكد أن هذه الشعوب لم تنضج على أرض الواقع، بما يؤهلها إلى إدارة البلاد وشؤون العباد، وإلا فما معنى أن تطالب أحزاب سياسية ونخب ثقافية، بالإفراج عن معتقلي فصيل معين دون غيرهم، أو بعدم مشاركة فصيل ما في الحياة السياسية بشكل عام.

أي ديمقراطية هذه التي تنشدها النخب السياسية في العالم العربي؟ وأي تصنيف هذا الذي يمنح الأولوية لفئات بعينها على حساب بقية أفراد الشعب؟ وأي عدالة هذه التي يمكن أن ننشدها في ظل قيادة هؤلاء؟ وأي تقدم وأي تطور يمكن أن يحرزه أولئك الذين كشفوا عن سوءاتهم حتى قبل أن ينالوا ما يريدون؟ وهو الأمر الذي يطرح تساؤلًا مهمًا، حول مدى التجاوزات والجرائم التي يمكن يرتكبها هؤلاء وأولئك إذا وصلت أقدامهم إلى سدة الحكم؟

على أي حال، أرى أن البيان المشار إليه، يمثل حجرًا يمكن أن يحرك المياه الراكدة في الحياة السياسية المصرية، كما يمثل ميثاقًا لشعوب دول المنطقة ككل، بضرورة التغاضي عن الصغائر، والترفع فوق الأيديولوجيات البائسة، التي لم تجن منها الشعوب العربية سوى البغضاء والكراهية، وهو الأمر الذي يجعلنا نطالب القوى السياسية كلها في الداخل والخارج، بالبناء عليه، كبرنامج انتخابي لكل المرشحين، رئاسيين وبرلمانيين ونقابيين، خاصة أنه قد وجد ترحيبًا شعبيًا منقطع النظير كما هو واضح، مع الوضع في الاعتبار أيضًا أنه لن يسلم من طعن المتردية والنطيحة، آفة كل العصور، الذين يتوهمون أن عمليات الإبعاد والإقصاء والتصنيف تصب في مصلحة النظام.

المصدر : الجزيرة مباشر