القراءة في تركيا.. الأرقام تتحدث

 

إن من أهم وسائل فهم ما يدور حولنا من حين لآخر، أن نخرج من دائرة الأحداث ونلقي عليها نظرة عن بُعد، كي نتمكن من مقارنة أوضاعنا بالآخرين، لا سيما عندما تفوح رائحة الفوضى في محيطنا.

ولا شك أن مستوى مطالعتنا للكتب يؤثر كثيرا في نظرتنا ومحاولاتنا للوصول إلى علاج لما نتعرض له، إذ يرتبط أسلوب تعاملنا مع الشائعات أو الأفكار المزعجة التي تملأ الفضاءات من حولنا، بمستوى قراءتنا. ولكننا مع الأسف أمة لا تقرأ.

وإذا ألقينا نظرة مقارنة لسلوكيات القراءة عندنا وعند الأمم من حولنا كاليابانيين والإنجليز، فبالتأكيد سيدهشنا مشهد الناس في وسائل النقل المختلفة لا سيما في مترو الأنفاق، حيث لا تكاد تجد أحدا تخلو يده من كتاب يتصفحه، بل إن الأمر يمتد إلى أماكن الانتظار المختلفة، حيث أناس جعلوا الكتب رفيقا لهم في كل مكان. أما نحن فما موضعنا من هذا المشهد؟! ربما صار الكتاب عندنا مجرد شيء له استخدام آخر بعيدا عن المطالعة، بعد أن كان الكتاب لدى أسلافنا خير جليس، لا سيما لو أدركنا أن القارئ حينما يُنهي قراءة كتاب ما لا يعود كما كان عليه قبل القراءة.

معارض الكتاب في أنقرة وإسطنبول

لا أدري هل هذا هو الواقع الحقيقي للأمة أم إنه خلاف ذلك، لأني أشعر بسعادة غامرة في كل مرة أزور معارض الكتب التي انتشرت في الآونة الأخيرة بصفة شبه دائمة في كل أنحاء الأناضول، وعلى وجه الخصوص في أنقرة وإسطنبول اللتين أتنقل بينهما بانتظام بسبب طبيعة عملي.

ولأني بالفعل على اتصال مباشر بعالم الكتب، لا أعتقد أن الحديث يمس فقط المهتمين بالقراءة ويقتصر عليهم دون غيرهم، ولا أقبل مجرد التفكير بتلك الطريقة، إذ إن المتحدث الأفضل في ذلك هو الأرقام والإحصاءات التي أتابعها وأهتم بها طوال الوقت.

ومما يدعو إلى التفاؤل أن الأرقام الخاصة بعدد الكتب المنشورة وتنوع مجالاتها وموضوعاتها، وكذلك المتعلقة بمعدلات القراءة في تركيا، تشير إلى أننا لم نكن في وضع سيئ على الإطلاق.

فالإحصاءات والأرقام عن معدلات النشر والقراءة في تركيا والمجتمعات العالمية التي ذكرها المدير العام للمكتبات والمطبوعات بوزارة الثقافة والسياحة السيد “علي أوداباشي”، في اللقاء الماتع الذي نظمه أصدقاؤنا الأعزاء الأستاذ الدكتور “نجدت سوباشى” والأستاذ الدكتور”فوزي موتلو”، للعشاء والدردشة في صحبة مليئة بالمودة والصفاء والفكر في أنقرة أخيرا، بعد أن تجاوزنا تداعيات وحظر وباء كورونا، إحصاءات في صالح تركيا إلى حد كبير، وقد زادت تلك الأرقام من بهجة اللقاء والحاضرين. وإلى جانب تلك الإحصاءات المتعلقة بمعدلات النشر والقراءة، تأتي الاستثمارات الأخيرة في المكتبات بالطبع، إشارة أخرى على الأهمية والقيمة التي توليها الحكومة في تركيا للكتاب. حيث إن عودة الحياة إلى ثكنة رامي بأراضيها الشاسعة مرة أخرى في صورة مكتبة وطنية رائعة وأرض للمعارض، مع الحفاظ على النسق التاريخي، يُعَد مؤشرا مهمّا إلى تفوّق الكتاب على المدفع في ساحات الفكر والثقافة، وارتفاع قيمة الكتاب الذي قال عنه أحمد شوقي: كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني *** وكساني مِن حِلى الفضلِ ثيابا

وأثر ذلك الاهتمام يمكن لزوار المكتبة الوطنية في أنقرة اليوم الاستمتاع برحلة وتجربة لا تُنسى في رحاب الكتب. فهناك أشخاص ليس لهم غاية إلا قراءة الكتب، فتجدهم ينامون ويستيقظون في صحبة كتبهم، وفي بيئة معرفية دافئة توفر للجميع الشاي والحساء إلى جانب إمكانية الوصول السلس لجميع أنواع الكتب التي يبحثون عنها، تجد أنهم كمن “أطلقَ في جنحِ الفضاءِ خيالَه *** يسمو ويعلو والشراعُ كتابُه”. وإنها لسعادة غامرة حينما نرى أن هذه الخدمة التي اعتنى بها عشاق الكتاب ومحبو القراءة في أنقرة منذ فترة، تتكرر على أرض ثكنة رامي في إسطنبول على نطاق أوسع، يتناسب مع تاريخ هذه المدينة العريقة وعظمتها العالمية. ولعل هذا العمل وغيره يوقظ أولئك الذين يدّعون ويتشدقون بأنه ليس هناك استثمار في مجال الثقافة في بلادنا، فليأتوا ويشاهدوا بأعينهم. وإليهم نوجه الدعوة مرارا وتكرارا، لأن هذا بالتأكيد ليس المثال الأول والوحيد للسياسة التركية في مجال نشر الكتب والثقافة.

في مركز أتاتورك

ومن أول الأمثلة التي أتذكرها الآن، مركز أتاتورك الثقافي (AKM) الموجود في ميدان تقسيم في إسطنبول وفي كل مدن تركيا، الذي قيل إنه سيُهدم ليقام مكانه مركز للتسوق، قد تم تجديده وإعادة تعميره ليكون مكتبات متاحة للجميع في أنحاء تركيا دون أي مفاضلات أو استثناءات سياسية أو أيديولوجية. فكُلُّ مصحوبٍ ذو هفواتٍ والكتابُ مأمونُ العثرات. وقد تُرجمت آلاف الكتب إلى لغات مختلفة في السنوات الأخيرة، بدعم من وزارة الثقافة لترجمة العلوم والآداب التركية إلى لغات أخرى، والأمثلة على سياسة الاهتمام بالكتب والثقافة لا يكفيها مقال.

من ناحية أخرى، تُظهر الأرقام التي قدّمها السيد “علي أوداباشي” في لقائنا السابق ذكره، أننا -بخلاف ما هو مشهور عن عادات القراءة لدينا- من بين الدول الرائدة في العالم. وعلى سبيل المثال:

ارتفع عدد عناوين الكتب الصادرة في تركيا من 8905 كتب عام 2000 إلى 87231 كتابا مع نهاية عام 2021. وقد بلغ عدد عناوين الكتب التي صدرت العام الماضي (2022) 83607 كتب، على الرغم من زيادة أسعار الورق في جميع أنحاء العالم. والأرقام المذكورة هنا هي لتنوع موضوعات وعناوين الكتب المطبوعة. وفي هذا الصدد، يمكن ملاحظة أن لدينا أداء يمكن أن ينافس جميع دول العالم المتقدمة. ووفقا لأحدث الإحصاءات الدولية التي أعلنتها رابطة الناشرين الدولية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، تحتل بلادنا المرتبة السادسة في العالم من حيث عدد العناوين المخصصة للنظام القياسي الدولي لترقيم الكتب “ISBN”، والمرتبة العاشرة من حيث حجم سوق البيع بالتجزئة. وبينما كان إجمالي عدد الكتب التي صدرت في تركيا 214 مليونا و414 ألفا و289 كتابا عام 2010، فقد بلغت 438 مليونا و679 ألفا و864 كتابا بنهاية عام 2021. وعلى الرغم من الوضع السيئ لصناعة الورق المذكور أعلاه، فقد وصل عدد الكتب إلى 380 مليونا و296 ألفا و402 عام 2022.

ووفقا للدراسة المَسحية لخريطة ثقافة القراءة التي تمت بتكليف من وزارة الثقافة عام 2011 لتحديد عادات القراءة في تركيا، فإن متوسط عدد الكتب للشخص الواحد هو 7.2. وفي الدراسة التي تم تجديدها عام 2018، ارتفع هذا الرقم إلى 9.2. بالإضافة إلى ذلك، وفقا للدراسة التي أجرتها مؤسسة “كوندا للأبحاث والاستشارات” نهاية عام 2019، فإن 70% من المشاركين لم يحددوا أنهم قرأوا الكتب، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 36% في الاستطلاع الأخير الذي أُجري عام 2019. وقد كشفت الدراسة أن معدل الذين قالوا إنهم قرأوا كتابا واحدا على الأقل في الأشهر الثلاثة الماضية قد ارتفع من 30% إلى 64%. كما أظهرت الدراسة أن معدل قراءة الكتب في تركيا 2.7 كتاب في المتوسط كل 3 أشهر في عموم المجموعات التي حددتها الدراسة، وأن هذا العدد يصل إلى 4.2 في مجموعة “القراء”، أما في المجموعة المسماة “يمكن أن تقرأ” فالمعدل أكبر. وفي الدراسة نفسها، تم التأكيد أيضا أن الشباب يقرؤون أكثر ممن هم فوق سن الأربعين.

دراسة الاتحاد الأوربي

وزيادة على كل تلك الدراسات، فإنه وفقا للدراسة التي نشرها الاتحاد الأوربي في أبريل/نيسان 2018، تحتل بلادنا المرتبة التاسعة بين دول الاتحاد الأوربي بمتوسط 7 دقائق من وقت القراءة اليومي، وتأتي في المرتبة الثامنة بنسبة 10.2% في معدل تحديد القراءة بوصفها واحدة من أهم الأنشطة التي يقوم بها الإنسان يوميا. ووفقا للدراسات التي أجريت في دول الاتحاد الأوربي، يقضي الأوربيون ما بين دقيقتين و13 دقيقة يوميا في القراءة، ويبلغ متوسط وقت القراءة اليومي دقيقتين في فرنسا، و5 دقائق في إيطاليا والنمسا ورومانيا، و13 دقيقة في إستونيا، و12 دقيقة في فنلندا، و12 دقيقة في بولندا، و10 دقائق في المجر. ووفقا لهذه الإحصائية التي نشرها مكتب الإحصاء الأوربي عام 2016، فإن متوسط الوقت الذي يقضيه الأتراك يوميا في قراءة الكتب هو 7 دقائق، لتحتل تركيا بذلك المرتبة التاسعة بين دول الاتحاد الأوربي، وتتفوق على دول مثل فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا. ورغم تلك المرتبة فإن ذلك لا يكفي لنتقدم ونتطور ونكون من أمة اقرأ بالفعل، لكن هذا الأمر بالطبع لا يدعو إلى الانهزامية، فإن تحديد المستوى الحقيقي هو بداية السير على طريق الوصول إلى الأفضل وتجاوز الآخرين، فالقراءة تعويض كافٍ عن كل الأشخاص الذين لم نقابلهم في حياتنا. القراءة عبادة وتكريم للإنسان، وسبب لامتلاك البصيرة وتهذيب النفس، وباب للإبداع وتنمية العقل وتوسيع المدارك.

المصدر : الجزيرة مباشر