إيران بين الاحتجاجات الداخلية والضغوط الخارجية

إيران تحتفل بالذكرى الرابعة والأربعين للثورة الإسلامية (الأناضول)

 

بين مقتل مهسا أميني في 16 سبتمبر/أيلول 2022، وتفجّر موجة غضب داخلي واحتجاجات حاشدة ما زال بعضها مستمرًّا، بشكل متقطع، وشهدت سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وأحكامًا بالإعدام لعدد من المتظاهرين، من ناحية، وتشديد الضغوط الغربية على إيران على خلفية ملفها النووي وتعاونها العسكري مع روسيا الاتحادية في العدوان على أوكرانيا، والتهديد الغربي بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كيانًا إرهابيًّا، من ناحية ثانية، وصولًا إلى الاستهداف العسكري الإسرائيلي لعدد من المنشآت العسكرية الإيرانية بطائرات مسيّرة في مدينة أصفهان الإيرانية في 29 يناير/كانون الثاني 2023، من ناحية ثالثة. يقف النظام السياسي في إيران بين سندان الاحتجاجات الداخلية ومطرقة الضغوط الخارجية.

الاحتجاجات وسياسات التفكيك من الداخل

شهدت إيران خلال السنوات الأخيرة العديد من الموجات الاحتجاجية، من بينها احتجاجات طلاب جامعة طهران في عهد خاتمي، ثم احتجاجات الحركة الخضراء في 2009 بعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد، والاحتجاجات المعيشية في عهد روحاني في 2017، وصولًا إلى احتجاجات 2022، بعد مقتل الناشطة الكردية مهسا أميني في السادس عشر من سبتمبر 2022. وهذه الاحتجاجات وغيرها، لم تؤد إلى سقوط النظام، ليس فقط بسبب ضعف هذه الاحتجاجات وعدم قدرتها على الحشد والتعبئة والاستمرارية، ولكن أيضًا بسبب القدرات العالية على الضبط والسيطرة التي يمتلكها النظام، وجزء كبير من هذه القدرات يتمثل في مؤسسات يغلب عليها الطابع الشعبي المرتبط بالثورة وفصائلها وحماتها التي تتغلغل في كل أركان المجتمع.

هذا بجانب أن معظم الحركات الاحتجاجية التي شهدتها إيران، وتحديدًا منذ بداية الألفية الجديدة، تفتقد القيادة الواضحة التي تتمتع بالحضور والتأثير والكاريزما، مقارنة بما كانت عليه قيادة الخميني للحراك الاحتجاجي في سبعينيات القرن العشرين، رغم أن الكثير من موجات الاحتجاج التي شهدتها إيران تمثل في الجانب الأهم منها صراعًا على هوية إيران السياسية والاجتماعية مدفوعًا بالتحديات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.

فعلى مدى عقود، كانت مسألة القيم الدينية والاجتماعية في إيران تتصادم مع قضايا الحداثة التي صبغت حياة الأجيال الجديدة في المجتمع، ونال موضوع الحجاب مساحة واسعة من النقاش الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد، إذ صار الحجاب بحكم القانون رمزًا سياسيًّا متجاوزًا مساحته العبادية والفقهية، وأصبح خلعه في الأماكن العامة شكلًا من أشكال الاحتجاج والرفض لسياسات النظام، وجاءت قضية “مهسا أميني” التي توفيت بعد اعتقالها من قِبل “دورية الإرشاد” التي تراقب الحجاب والسلوكيات العامة، لتفتح الباب أمام موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية ضد هذه السياسات.

وهو ما يؤكد أن هناك أزمة حقيقية يعاني منها النظام السياسي الإيراني في ما يتعلق بقدرته على فهم التغيرات القيمية والاجتماعية والثقافية والفكرية في المجتمع مقارنة بما كانت عليه الأوضاع مع نجاح الثورة في إيران عام 1979، لأن هناك أجيالًا نشأت في ظل أولويات وتفضيلات قيمية ومعيارية وسلوكية مغايرة تمامًا لتلك التي كانت سائدة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، بل وحتى تلك التي كانت سائدة قبل 10 سنوات فقط مع موجة الثورات الشعبية في الدول العربية، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي وتصاعد دورها في التغيير السياسي والثقافي، ولم تحل سياسات النظام في حجب مواقع هذه الشبكات من الحد من تأثيراتها، كما لم يعد حديث المؤامرات والشيطان الأكبر مُقنعًا للكثيرين في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانهيارات العملة الوطنية الإيرانية خلال السنوات الماضية.

وفي هذا السياق، جاء قرار حل جهاز “شرطة الأخلاق” على خلفية احتجاجات 2022، ليثير مخاوف السلطة في إيران من أن يؤدي القرار إلى سلسلة جديدة من التنازلات نتيجة استمرار أو تصاعد ضغط الشارع ومطالبه بغض النظر عن توجهات المحتجين أو من يقف خلفهم في الداخل أو الخارج.

وتعددت الاجتماعات والنقاشات حول الآليات التي يمكن أن تساعد على الخروج من مأزق التوفيق بين الهوية الدينية للنظام وكيفية التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي فرضتها الحركة الاحتجاجية الأخيرة، ونجاحها في إلغاء إلزامية الحجاب، وأصبح النظام مطالبًا بالاعتراف بوجود فجوة حقيقية بينه وبين القاعدة الشعبية من الأجيال الجديدة التي أصبح الرفض داخلها يتنامى ضد سياسات النظام.

تصنيف الحرس الثوري الإيراني كيانًا إرهابيًّا

بعد سقوط الشاه في إيران عام 1979، أدركت السلطات الجديدة أنها بحاجة إلى قوة كبيرة ملتزمة بأهداف النظام الجديد والدفاع عن “قيم ومبادئ الثورة”، وصاغ قادة الثورة قانونًا يشمل القوات العسكرية النظامية، وتُناط بها مهمة الدفاع عن حدود البلاد، وحفظ الأمن الداخلي، وقوات الحرس الثوري (الباسدران) وتُكلَّف بحماية النظام الحاكم.

لكن تداخلت أدوار القوتين، فالحرس الثوري يقوم أيضًا بمهام المساعدة على حفظ النظام العام، ويعزز باستمرار من قوته العسكرية، والبحرية، والجوية. وتحوّل إلى قوة عسكرية، وسياسية، واقتصادية كبيرة في إيران. وفي أعقاب دمج قوات “البسيج” (المتطوعون) بالحرس الثوري، تم تعديل استراتيجية الحرس بناء على توجيهات المرشد الأعلى وأصبحت المهمة الرئيسية له، وفق المسؤولين الإيرانيين، هي “التصدي لتهديدات أعداء الداخل أولًا، ومساعدة الجيش لمواجهة التهديدات الخارجية”.

ويُقدَّر عدد أفراد الحرس الثوري بنحو 125 ألفًا، ولديه قوات أرضية، بالإضافة إلى وحدات بحرية وجوية، ويشرف على أسلحة إيران الاستراتيجية، بجانب قوات “البسيج”، التي تُعرف بقوات التعبئة الشعبية، وهي تابعة للحرس الثوري وتضم نحو 90 ألفًا من الرجال والنساء، وتشير بعض التقديرات إلى أن “البسيج” لديه القدرة على حشد نحو مليون متطوع عند الضرورة، ومن مهام البسيج الأساسية “التصدي للأنشطة المناهضة للنظام داخل البلاد”.

أما فيلق القدس، فهو أحد أذرع الحرس الثوري، ويتولى تنفيذ مهام حساسة في الخارج مثل تقديم الأسلحة والتدريب للجماعات المقربة من إيران في مختلف دول العالم، وبرز دوره بقوة في العراق وسوريا ولبنان منذ 2003 وحتى الآن، كما أن للحرس حضورًا مؤثرًا في مختلف السفارات والبعثات الدبلوماسية الإيرانية في العالم، وهو ما يساعده على القيام بمهام استخباراتية من ناحية، ودعم حلفاء إيران من ناحية أخرى.

ويتبع الحرس الثوري للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية مباشرة، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة في البلاد، كما أن الحرس يسيطر على نحو 35% (وفق بعض التقديرات غير الرسمية) من الاقتصاد الإيراني، من خلال تحكّمه في العديد من المؤسسات والصناديق الخيرية والشركات في العديد من القطاعات والنشاطات.

وسعيًا نحو تشديد الضغوط الخارجية -وخاصة الغربية- على النظام الإيراني، في ظل تعاظم دور الحرس الثوري في العديد من القضايا الإقليمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وصولًا إلى أوكرانيا، ناقش وزراء خارجية دول الاتحاد الأوربي إمكانية تصنيف الحرس الثوري “كيانًا إرهابيًّا”، وذكر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي أنه لا يمكن إدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة الكيانات الإرهابية إلا بعد صدور قرار من محكمة في إحدى دول الاتحاد يفيد بذلك.

وقالت وزيرة الخارجية الألمانية إن برلين ترحب بجهود يبذلها قادة الاتحاد الأوربي لإدراج الحرس الثوري ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، وأضافت “ما زلنا نرى في إيران نظامًا وحشيًّا ضد شعبه. إن النظام الإيراني والحرس الثوري يرهبان شعبهما يومًا بعد يوم”.

وفي مقابل هذه التصريحات، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إن بلاده أبلغت مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوربي رفضها قرار البرلمان الأوربي إدراج الحرس الثوري ضمن قوائم الإرهاب، وأضاف أن أي إجراء ضد الحرس الثوري “يُعَد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الإيراني”، وأن رد طهران سيكون متناسبًا مع أي إجراء يقوم به الاتحاد الأوربي.

وقال قائد الحرس الثوري إنه في حال قررت الدول الأوربية أن تتخذ إجراءات سلبية ضد الحرس الثوري، فإن الرد الإيراني سيجعلها تندم. وقال رئيس البرلمان الإيراني إن العقوبات الأمريكية على إيران وروسيا تُعَد أهم تهديد في الوقت الراهن، وإن الضغوط على إيران وروسيا “تتطلب العمل المشترك والتعامل الاستراتيجي لتجاوز هذه المرحلة”.

وفي إطار التصريحات وردود الأفعال المتبادلة، يمكن القول إن التفكير الأوربي في تصنيف الحرس، يرتبط بالعديد من الاعتبارات، أولها تشديد الضغوط على النظام الإيراني للإصلاح السياسي ودعم المعارضة الإيرانية التي تصاعد حضورها خلال الأشهر الخمسة الأخيرة في ظل موجة الاحتجاجات والاعتقالات والقتل والإعدامات التي تعرّض لها المحتجون.

وثانيها، الضغط على إيران في العديد من الملفات الإقليمية والدولية مثل: الدور الإيراني في الحرب الأوكرانية، العلاقات الإيرانية ـ الروسية، العلاقات الإيرانية ـ الصينية، الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، وأزمة الملف النووي الإيراني.

ومن ناحية أخرى، فإن تصنيف الحرس الثوري الإيراني على أنه جماعة إرهابية من شأنه أن يجرّم الانتماء إلى الجماعة أو دعمها، وبالتالي فرض عقوبات على كل من ينتمي إليها وتجميد أصولها في البلدان التي تم إدراجها فيها في قائمة الإرهاب، ولن يُسمح لأي مواطن أو شركة هناك بالتبرع لها، وهو ما يعني فتح ساحة مواجهة مفتوحة بين الدول التي ستصنف الحرس كيانًا إرهابيًّا وإيران.

لكن في المقابل هناك تشكك كبير في إمكانية تضرر عمليات الحرس الثوري الإيراني في الخارج، لأن إيران فعليًّا تخضع للحصار والعقوبات منذ سنوات، وامتلكت قدرة كبيرة على إدارة أعباء هذا الحصار وتلك العقوبات، ولذلك يذهب البعض إلى أن التصنيف سيبقى إجراءً رمزيًّا، دون أن تكون له تبعات حقيقية على الحرس، الذي أصبح يمتلك نفوذًا وشبكات واسعة في العديد من الدول، وعبر العديد من الحلفاء بواجهات ومسميات مختلفة، مما يشكل عقبة حقيقية أمام اعتبار التصنيف تهديدًا له.

تشديد الضغوط ومآلات المستقبل

في إطار الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن الاحتجاجات الداخلية لن تؤدي إلى إسقاط النظام في إيران، على المدى القريب، لكنها ستشكل أحد مصادر التوتر وعدم الاستقرار، إذا لم يستطع النظام التعاطي معها بفاعلية تراعي المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع الإيراني.

وعلى النظام السياسي في إيران إدراك أن الإفراط في سياسات القمع والقهر، مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، قد يكون دافعًا إلى الانفجار الداخلي، وخاصة مع التدخل الخارجي في دعم هذه الاحتجاجات، إعلاميًّا وسياسيًّا.

كما يمكن القول من ناحية ثانية، إن تصنيف الحرس الثوري كيانًا إرهابيًّا من شأنه أن يزيد من اتساع الهوة بين إيران والدول الأوربية، وبالتالي يدفعها إلى تعزيز وترسيخ شراكاتها مع كل من روسيا والصين، وهو الأمر الذي لا يصب في صالح أوربا والولايات المتحدة في هذه المرحلة التي تتعاظم فيها تداعيات وتحديات وتطورات الحرب الأوكرانية، كما لا يصب في صالح أمن واستقرار منطقة الخليج، وخاصة أنها ستكون المستهدَف الأول من جانب إيران في حال فقدت كل الأطراف السيطرة على تحولات الأوضاع وتطورات الصراع.

المصدر : الجزيرة مباشر