العالم يتغير.. لكنه يحتاج إلى خيال حضاري!

السوس ينخر في عظام النظام العالمي؛ لذلك يمكن أن ينهار هذا النظام فجأة، فتفقد أمريكا سيطرتها على الشعوب التي يمكن أن تنتفض لتنتزع حريتها، واستقلالها الشامل.. فهناك حقيقة تزداد وضوحا مع الأحداث السريعة التي يشهدها العالم، هي أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر، وأن الاستقرار خرافة، ومن يكون هدفه المحافظة على الاستقرار يفقد القدرة على إدارة التغيير، والاستفادة مما يمكن أن يتيحه من إمكانيات لتحقيق التقدم والقوة والثراء وبناء المكانة العالمية.
عندما يتحول الشعور بالظلم إلى غضب!
من أهم العوامل التي تساهم في انهيار النظام العالمي تزايد الشعور بالظلم الذي أدى إلى الاكتئاب واليأس والإحباط، فلم يعد هناك من يحرص على حياة الذل والفقر!!… ولو أن الدول أتاحت للعلماء الحرية لإجراء استطلاعات الرأي العام لاكتشفنا الكثير من الحقائق التي يمكن أن توضح أن العالم كله يقترب من حافة الانهيار، وأن أمريكا تدفع العالم نحو مصير مظلم.
إن الشعور بالظلم يمكن أن يتحول إلى غضب، والشعوب لن تجد أمامها سوى الدفاع عن حياتها بالثورة على النظام العالمي الذي تزايد في ظله الفقر والبؤس، وأدى ذلك إلى إحباط آمال الشعوب، وإجهاض أحلامها.
وكانت ثورات الربيع العربي فرصة!
انتفضت الشعوب -خلال العقد الماضي- فعبرت عن أحلامها في التحرر من التبعية لأمريكا وتحقيق الاستقلال الشامل، فاستخدمت أمريكا وسائل غير أخلاقية لإجهاض التجارب الديمقراطية الناتجة عن هذه الثورات، وإعادة السلطة إلى المستبدين.
لو كانت أمريكا تملك خيالا حضاريا لتعاملت مع الشعوب باحترام، وتركتها تبني نظمها الديمقراطية؛ إذ إن هذا هو الطريق الأكثر أمانا، فالنظم الديمقراطية التي أقامتها هذه الثورات كانت حريصة على المحافظة على الدول طبقا لاتفاقية سايكس بيكو، والحدود التي رسمتها، وكان يمكن أن تعمل في ظل النظام العالمي، وتبني علاقات دولية تقوم على تبادل المصالح، وفتح مجالات التعاون والمشاركة.
لذلك كانت ثورات الربيع العربي فرصة لفتح مسارات جديدة أمام الشعوب لبناء مستقبلها، مع المحافظة على النظام العالمي، والعمل في إطاره.
أمريكا فقدت الخيال الحضاري!
لكن أمريكا فضلت مصالحها، وتعاملت مع الشعوب بعداء، ففرضت عليها نظم حكم مستبدة استخدمت كل أساليب الظلم والقهر بالقوة الغاشمة، وانتهكت حقوق الإنسان، وأفقرت الشعوب بإغراقها في الديون.
كانت أمريكا ضيقة الأفق، فلم تفكر في بناء علاقات طويلة المدى مع الشعوب، ولم تدرس المخاطر الناتجة عن إجهاض التجارب الديمقراطية، ومن أهمها تزايد العداء لأمريكا، وتشويه صورتها التي أصبح أهم سماتها أنها ترعى الاستبداد، وتعمل لإفقار الشعوب، وتطبق المعايير المزدوجة، وتنتهك حقوق الإنسان، وتمنع الشعوب من إقامة نظمها الديمقراطية.
وأنا أعرف جيدا أن أمريكا متقدمة علميا، وتمتلك الكثير من الجامعات ومراكز البحث والتفكير وقياس الرأي العام.. فلماذا لم تتمكن من اكتشاف هذه الأفكار، ولماذا فضلت مصلحتها الآنية على المحافظة على النظام العالمي بفتح مجالات جديدة أمام الشعوب للتنفيس عن غضبها، وتحقيق بعض آمالها؟
من الواضح أن أمريكا افتقدت الخيال الحضاري الذي يتيح لها أن تتعامل بحكمة مع الشعوب، فلم تدرك الكثير من الحقائق، ومن أهمها: أن الثورة ستصبح الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحياة، وأن النتيجة الوحيدة للاستسلام للواقع هي الموت. والشعوب ستفضل الحياة، وتدافع عن حريتها وحقوقها بالثورة على النظام العالمي كله.
إن الشعوب ثارت خلال العقد الماضي على نظم مستبدة فاسدة تابعة لأمريكا، وكان يمكنها الاكتفاء بالتخلص من هذه النظم، وقبول العمل في إطار النظام العالمي بهدف المحافظة على الدول، والكفاح السلمي لتحقيق الآمال في التنمية والقضاء على الفقر والتحرر من التبعية.
لكن هل سيكون هذا المسار مقبولا لدى ثورات المستقبل؟ وهل ستهتم الشعوب بالمحافظة على الدول وحدودها، وهل ستهتم ببناء نظم ديمقراطية؟!!
لماذا فقدت القدرة على التفكير؟!!
أمريكا فقدت القدرة على التفكير وتوقع المستقبل، عندما عملت لإجهاض التجارب الديمقراطية العربية، وفضلت أن تحكم تلك الدول نظم مستبدة تستخدم القوة الغاشمة لقهر شعوبها!
هذا يدفعنا إلى البحث عن أساليب لربط العلم والتفكير المنطقي والعقل بالحكمة والبصيرة والخيال الحضاري وترشيد استخدام القوة والقراءة المتعمقة لتجارب التاريخ، فبالحسابات المادية استطاعت أمريكا إعادة فرض سيطرتها على الشعوب باستخدام النظم المستبدة التابعة لها، لكن النتائج المستقبلية لتلك الحسابات ستكون كارثية، ومن أهمها: أن ثورات الشعوب القادمة لن تلتزم بأساليب الكفاح السلمي، ولا بحدود سايكس بيكو، وستوجه نيران غضبها وانتقامها نحو أمريكا وأوربا.
إن هذه المشاعر لا يمكن التحكم فيها إذا ما انطلقت قريبا نتيجة للفقر والقهر والظلم، وأتوقع أن تلك الثورات ستكون بدون قيادات.. ويومئذ ستتحمل أمريكا نتائج عدم قدرتها على إطلاق العنان لخيالها الحضاري لرؤية المستقبل.
هل هناك فرصة؟!!
نتيجة تحليلي للمضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام الغربية، أن الفرص للمحافظة على النظام العالمي ضاعت، وأن العوامل التي ستؤدي إلى انهياره تتجمع في الأفق، وأنه لم يعد أمام الشعوب سوى الثورة للمحافظة على حياتها.
وبالرغم من ذلك فإن المناهج العلمية التي طبقتها طوال حياتي تدفعني إلى دعوة العلماء إلى التفكير في وسائل لإنقاذ العالم من الانهيار، ومن أهمها:
1- فتح المجال أمام الشعوب لبناء نظم ديمقراطية تتيح لها اختيار قياداتها بحرية.
2- إقامة علاقات دولية أساسها المشاركة والتعاون، ومقاومة الفقر، ومساعدة الشعوب على استثمار ثرواتها.
3- حماية حرية الإعلام، وإنشاء وسائل إعلامية توفر المعرفة للجماهير، وتدير المناقشة الحرة.
4- فتح المجال أمام العلماء لإجراء استطلاعات رأي عام لتوفير أسس لاتخاذ القرارات التي تحمي حقوق الشعوب وتعبر عن إرادتها.
5- احترام حقوق الشعوب في تحقيق الاستقلال الشامل، واختيار المشروعات الحضارية التي تقيم على أساسها مستقبلها.
6- إعادة بناء الأمم المتحدة لتعبر عن إرادة الشعوب، والعمل لتحقيق سلام عالمي يقوم على العدل، والتعاون بين الحضارات بدلا من تصادمها.
7- أن تدرك أمريكا أن نهاية السيطرة والاستغلال والنهب اقتربت، وأنه من الأفضل لها أن تحترم حق الشعوب في الاستقلال والحرية، بدلا من أن تضطر إلى ذلك بفعل الثورات القادمة.