مظاهرات “الشعر الأبيض” ونهاية عصر التفاؤل الذهبي في الصين

مظاهرات الصين

انتهي العصر الذهبي للتفاؤل في الصين، رغم تراجع الحكومة المفاجئ عن قبضتها الأمنية وإلغاء سياسة “صفر كوفيد” التي سمحت بسفر المواطنين في 300 مليون رحلة بالداخل والخارج، احتفاء ببداية السنة القمرية، في فبراير/شباط الجاري. انتهت القيود الصحية بضغوط متظاهري “الورقة البيضاء” التي أطلقها شباب مدينة شنغهاي، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وانتشرت بأنحاء البلاد، فدفعت الحزب الشيوعي إلى انهاء سياسة عقيمة، تمسّك بها الرئيس شي جين بينغ لمدة 3 سنوات، دون أن تقضي على الوباء بينما شلت الاقتصاد.

ما أن هدأ الحال، حتى اندلعت احتجاجات أكثر قوة بأقاليم عدة، عُرفت بـ”مظاهرات أصحاب الشعر الأبيض” من النساء والرجال الذين تجاوزوا 60 عاما. يُعرف كل من يبلغ 60-70 عاما بجيل “الحرس الأحمر” ممن وُلدوا عقب وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة عام 1949، تربوا على مبادئ الاشتراكية الماوية بالمدارس، وتعرضوا للكوارث التي صنعها قادته. أدت أخطاء القادة إلى مجاعات في عهد الزعيم ماو تسي دونغ، مات فيها نحو 30 مليون نسمة، ودفعتهم عصابة الأربعة أثناء الثورة الثقافية إلى العمل القسري بالحقول والمصانع الرديئة، وحرمتهم من استكمال تعليمهم، وأغلقت الجامعات 10 سنوات، خاضوا مرحلة التحول إلى الرأسمالية، وعندما بدأت الدولة الانطلاق اقتصاديا وجني ثمار عصرها الذهبي، حل موعدهم للتقاعد.

“بروباغاندا” أمراء الحرب

يفتخر الرئيس شي جين بينغ بأنه ينتمي إلى جيل الحرس الأحمر، رغم كونه من “أمراء الحرب” وهم أبناء الوزراء والقادة الذين دخلوا صغارا تنظيم شبيبة الحزب الشيوعي، ويحتلون الآن المناصب القيادية بالحزب والوزارات ومراكز السلطة والمال. يحرص الرئيس في جولاته بالريف على الالتقاء بكبار السن، ليقدّم صورة نمطية عن “الأب الروحي” الحارس لشؤون 350 مليون نسمة، بلغوا سن التقاعد، فكانوا أكبر داعمين لقبضته الأمنية المشددة، والمستهزئين بالشباب الذين شاركوا في مظاهرات “الورقة البيضاء”.

نشر شباب على وسائل التواصل الاجتماعي، منذ أسابيع، صورة امرأة عجوز تحتضن الرئيس وهي تبكي فرحا لمقابلتها مصادفة “شي” بجولة ريفية، فيحل جميع مشكلاتها. تُظهر تعليقات الشباب المدعومة بصور عديدة للعجوز، أنها ممثلة، ظهرت في مسلسلات درامية عدة، وصورت المشهد نفسه بأكثر من مكان، لتؤدي “البروباغاندا” المطلوبة للرئيس، الذي يروّج بأنه اليد الحانية على كبار السن، فما كان من “أصحاب الشعر الأبيض” إلا ملاحقة الشباب بالشتائم، ومطالبتهم بأن يخضعوا لـ”العم شي” المرشد الأعلى للدولة.

لماذا يتظاهرون؟

يحتج “أصحاب الشعر الأبيض” في كبريات المدن، منها جوانزو بالجنوب وداليان بالشمال ووهان بالشرق، في تظاهرات بدأت بالآلاف، وتكررت بحضور أكثر من 100 ألف متقاعد وسط مدينة ووهان منتصف فبراير. تزداد الاحتجاجات مع اكتشافهم تغيير الحكومات المحلية نظام التأمين الصحي، وتقليص الدولة الدعم النقدي الذي كانت تدفعه صناديق الرعاية الطبية للمتقاعدين. فوجئ متقاعدو “داليان” بخفض الدعم من 400 يوان إلى 83 شهريا، وإذا احتاج متقاعد إلى علاج بالمستشفى فعليه أن يدفع 500 يوان يوميا، بعد أن كان مجانيا. أزالت الحكومة المحلية الكثير من الأدوية المدعومة شهريا، وكذلك فعلت حكومة “ووهان” موطن وباء كوفيد، والأكثر غنى وارتفاعا بمستوى المعيشة بين المقاطعات. تجذب “ووهان” كبرى الشركات الدولية استثمارا في الصين، وبها 30% من السكان بسن التقاعد يبلغ تعدادهم مليوني نسمة، مع ذلك خفضت المقاطعة الدعم الشهري من 261 يوانا إلى 83 يوانا، تعادل 70% من قيمة الدواء.

أنفقت حكومات الأقاليم نحو 352 مليار يوان (50 مليار دولار) سنويا، منذ ظهور وباء كوفيد-19، نهاية عام 2019، مع توجيه نحو 100 مليار دولار أخرى، لمواجهة الوباء في أيامه الأولى من حكومة بيجين المركزية. لا يرغب المتقاعدون في مواجهة السلطة بشأن الفساد الذي شاب عمليات الإنفاق، والمعاناة التي لاقوها أثناء فترة الإغلاق، ولكنهم يريدون العدالة وحقوقهم المسلوبة. لا يسعى “أصحاب الشعر الأبيض” إلى ثورة على النظام، ولكن دفعه إلى تطبيق المبادئ التي تفتحت عيونهم عليها وتبدلت فجأة، ولم يجنوا منها شيئا عندما بلغوا من الكبر عتيا.

مواجهة ساخنة

خرج المتقاعدون إلى التظاهرات، ولديهم يقين بأنه ليس عندهم ما يخسرونه، لذلك انطلقت صرخاتهم مدوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعندما تجمّع 10 آلاف منهم يوم 8 فبراير، وسط مدينة ووهان، لم ترهبهم الشرطة التي أزالت أسماء وأرقام جنودها من ستراتهم، ولا محاولات السلطة “استمطار السماء” لتفرقهم بقوة الطبيعة. من المدهش أن المتقاعدين هددوا حاكم الإقليم بأنهم سيتظاهرون بالملايين يوم 15 فبراير -في واقعة تحدث للمرة الأولى- لتحدي الشرطة والنظام، إذا لم يستجب لمطالبهم. دفعت المواجهة السلطات إلى إغلاق الجامعات والمدارس، ومحطات المترو والحدائق، يوم التظاهر، ومنها قبلها، استدعت المدارس أولياء أمور التلاميذ، على مدار أسبوع، ليطلبوا منع آبائهم وأمهاتهم من التظاهر، مع تهديدهم بأنهم مسؤولون عن تصرفات جدود الطلاب، وتأثير فشلهم سلبا على أطفالهم. أغلق أعضاء الحزب الشيوعي المجمعات السكنية، التي يقيم بها المتقاعدون لمنعهم من إظهار سخطهم والخروج إلى الشوارع حاملين لافتات غاضبة، مع ذلك تجمّع نحو 100 ألف للمطالبة بإسقاط رئيس حكومة ووهان.

الناجون من الموت

لم تفلح الشرطة في إجبار المتجهين إلى المظاهرة على كتابة تعهّد بعدم التجمهر وحمل اللافتات، ورغم قطع الإنترنت عن المنطقة ساعة الحشد، رفعوا مئات الفيديوهات بوسائل التواصل الاجتماعي في الداخل، ووصلت إلينا على تويتر وفيسبوك.

يقف النظام عاجزا أمام عجائز اكتشفوا قوتهم مع مرورهم بالمجاعات، وانتكاسات الثورة الثقافية، ولم يقتلهم الوباء. يقولون: لماذا نخاف الموت وقد نجونا منه مرارا، فنحن نطالب بأن يحقق الشيوعيون الاشتراكية والرخاء الذي كنا نموت كل يوم لننجز ما يعدنا به الزعماء من نعيم؟! أصبح المستبدون في موقف دفاعي، مع شعور الناس بعدم الأمان المادي والمساواة، حيث يرفضون أن يظلوا وقودا لثورة من المهد إلى اللحد بينما يجني غيرهم الثمار.

المصدر : الجزيرة مباشر