“تطفيش” الجمهور من البورصة والودائع مهمة مطلوبة

 

أشار تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي، الثلاثاء الماضي، إلى توقعه بلوغ نسبة التضخم العالمي في العام الحالي 6.6%، مقابل نسبة 8.8% في العام الماضي، بعد أن كانت النسبة للتضخم العالمي 4.7% عام 2021، وهو العام الذي شهد العالم خلاله موجة ارتفاعات سعرية، زادت حدتها في العام الماضي مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، نظرًا لاستحواذ بلدي الحرب على نسبة كبيرة من صادرات الحبوب وزيوت الطعام.

أي أن العالم سيعاني خلال العام الحالي من استمرار موجة التضخم، الذي تواجهه الدول الكبرى والنامية بالمزيد من رفع الفائدة لتقليل الإنفاق، رغم أن غالب أسباب التضخم تعود إلى نقص في المعروض للعديد من السلع، أي أنها علاجها الجذري يحتاج إلى المزيد من الإنتاج منها، حتى تنضبط أسعارها بفعل قانون العرض والطلب، أما العلاج برفع سعر الفائدة فهو حل مؤقت لا يحل المشكلة من جذورها، في ضوء تزايد الاستهلاك العالمي المدفوع بزيادة السكان وتحسن المستوى المعيشي.

وتزداد مشكلة التضخم في الدول النامية والناشئة حسب توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة، لتصل خلال العام الحالي إلى 8.1% مقابل 9.9% في العام الماضي، وبعد أن كانت 5.9% عام 2021، أي أن نسبة الانخفاض في العام الحالي محدودة، وما زالت مرتفعة.

ولأن كل دولنا العربية والإسلامية تقع ضمن الدول النامية والناشئة، فإن المعاناة من الغلاء فيها ستظل مستمرة، خاصة وأن نسب الاكتفاء الذاتي من الغذاء في معظمها منخفضة، كما أن عددًا كبيرًا منها مستوردة للطاقة، حيث توقع صندوق النقد بلوغ متوسط سعر برميل النفط في العام الحالي 81 دولارًا.

  استيراد 10 مليون طن سكر خام عربيًا

وهكذا ستظل مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء مستمرة في العام الحالي، خاصة وأن سعر الغاز الطبيعي والفحم مرتبطان بسعر النفط صعودًا وهبوطًا، كما أن أسعار الغذاء مرتبطة بسعر الطاقة، سواء من حيث أسعار النقل البحري أو البري، أو تكلفة تشغيل الآلات الزراعية، أو من خلال اعتماد صناعة الأسمدة على الغاز الطبيعي.

وها هي بيانات صندوق النقد العربي لعام 2020 تشير إلى بلوغ كمية الواردات العربية من الحبوب والدقيق 77 مليون طن، ومن السكّر الخام 10 مليون طن، و2.7 مليون طن من البقوليات، وحوالي 6 ملايين طن من الزيوت النباتية بخلاف 5.5 ملايين طن من البذور الزيتية لتصنيعها محليًا.

إضافة لاستيراد 10 ملايين طن من الألبان ومنتجاتها، و2.4 مليون طن من اللحوم بخلاف 10.5 ملايين طن من الأغنام والماعز الحية، و1 مليون طن من الأبقار والجواميس الحية، حتى الخضر بلغت كميات وارداتها 4.8 ملايين طن، والفواكه 6.4 ملايين طن.

ولقد وصلت أسعار المنتجات الغذائية في مصر مؤخرًا على سبيل المثال إلى حد عدم استطاعة غالبية الأسر شراءها، الأمر الذي ستؤثر في الصحة العامة للمواطنين وانتشار أمراض سوء التغذية، بل والأمراض النفسية، وربما تكرار ما فعلته النقابات العمالية في بريطانيا مؤخرًا.

وكالعادة تضغط السلطات على بعض المنتجين لعرض بعض منتجاتهم في معارض وشوادر بالأقاليم، لتخفيف الأعباء نسبيًا على الأسر، لكنه حتى تلك الأسعار المخفضة ما زالت أعلى من القدرة الشرائية للغالبية، كما تقوم الوزارة المعنية بالتموين مثل غيرها من الوزارات المعنية باستيراد الغذاء في باقي الدول باستيراد المزيد من السلع الغذائية، كحلول مؤقتة تظل معها المشكلة الأصلية، وهي ضعف نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية المستمرة.

الاستثمار بالعملات الأجنبية لا يفيد المجتمع

ومن الأسباب الرئيسة لتلك المشكلة التي تتزايد حدتها بمرور الوقت، إلهاء المجتمع عن قضيته الأساسية وهي إنتاج غذائه، وتشتيت مجالات استثماره، فبدلًا من توجيه الفوائض إلى استثمارها في عمل مشروعات إنتاجية وخدمية، أصبحت تلك الأموال متجهة للاستثمار بالبورصة، أو اقتناء العملات الأجنبية للاستفادة من تغير سعر صرفها، أو الإيداع في البنوك بمختلف أشكاله من ودائع توفير إلى شهادات إيداع متعددة العملات والآجال.

وهذا التحول السلوكي الاستثماري في المجتمعات العربية لخصه أستاذ جامعي عجوز، حين قص أنه عندما كان طالبًا ودخلت الكهرباء قريته، طلب من والده المزارع البسيط شراء جهاز تليفزيون أسوة بما قام به الجيران، فرد عليه والده: وهل هذا التلفزيون يحلب؟ فرد الابن: طبعًا لا، فقال الأب: إذًا لا نشتريه.

وهكذا عاش هذا الفلاح البسيط عمليًا قضية توظيف المال في مجال نافع، كشراء بقرة مثلًا بفائض المال الموجود تدر لبنًا ولحمًا، وتساعد في إدارة الساقية خلال عمليات الري، وتجلب دخلًا يمكن منه الإنفاق على الأسرة، بينما لا أنسى الفضائيات المصرية التي استضافت مزارعين باعوا ما لديهم من بقر ومواشٍ، لشراء أسهم الشركة المصرية للاتصالات، مشجعين لهم على هذا الاستثمار العصري!

وأذكر يوم قابلت المرحوم زكي العرابي عندما كان رئيسًا لبنك التنمية الوطني، الذي أنشأه الرئيس السادات لعمل تنمية محلية في المحافظات المصرية، حيث كان هناك بنك لهذا الغرض في كل محافظة، وعندما اطلعت على ميزانيات البنك قبل لقاء رئيسه، لاحظت عدم وجود استثمارات للبنك في البورصة، وسألته: لماذا تخلو استثمارات البنك من أسهم في البورصة؟ ورد بشكل صادم: لأنها قمار.

وكان الشيخ صالح كامل -رحمه الله- رغم ضخامة مشروعاته التي امتدت للعديد من البلدان لا يتعامل بالبورصة، ويبرر ذلك بأنه استثمار غير مفيد للمجتمع، فهي عبارة عن أموال تنتقل من جيب شخص إلى آخر دون أن تضيف للناتج المحلي للبلد شيئًا.

البورصة لتأسيس الشركات وليست لنقل الملكية

ولعل المثال العملي المتمثل في دمياط المحافظة المشهورة بنشاطها الإنتاجي، المتعدد المجالات من أثاث وحلويات وأحذية وغيرها، حيث ترك العديد من أفرادها مجالات عملهم الأساسية الإنتاجية، وتوجهوا بأموالهم للاستثمار بالبورصة، وجلسوا على المقاهي متباهين بمتابعة أسعار الأسهم التي يتعاملون بها!

والغريب أن الأصل في البورصة هو وجود سوق للأسهم ناتج عن تأسيس شركات جديدة، أو أسهم ناتجة عن زيادات رؤوس أموال شركات قائمة، وطمأنة حملة تلك الأسهم على إمكانية بيع أسهمهم في أي وقت أي إمكانية تسييلها، كان إيجاد مقار البورصة المعروف الذي تتابعه وسائل الإعلام ولا تشير بالمرة إلى السوق الأصلية الأهم.

لكننا انحرفنا عن الدور الرئيس للبورصة لتأسيس شركات جديدة بمجالات النشاط المختلفة من زراعة وصناعة وسياحة واتصالات وتصدير وغيرها، وعمل توسعات بالشركات القائمة، إلى السوق الأقل الأهمية حتى أنها تسمي لدى المتخصصين “السوق الثانوية”، التي تقوم بنقل ملكية الأسهم من شخص لآخر، وتحولت مع الوقت غالبًا إلى مضاربات، وإلى حد شراء السهم نفسه وبيعه في جلسة التعامل اليومية نفسها.

الأمر نفسه في التعامل مع البنوك لإيداع الأموال فيها، وانتظار العائد المضمون، رغم أنه غالبًا ما تكون نسبته أقل من التضخم، أي أن المال المُودع تتآكل قيمته، والصورة الذهنية السائدة أن البنوك تتلقى ودائع المدخرين لتنقلها إلى المستثمرين، بما ينجم عن ذلك من إضافة طاقات إنتاجية وخدمية وفرص تشغيل.

لكن هذا الأمر لا يحدث غالبًا على المستوى العملي، ونظرة سريعة لميزانيات البنوك المصرية مثلًا ستؤكد ذلك، حيث سنجد أن غالب أموال البنوك موظفة في أذون خزانة وسندات خزانة حكومية، أي أنها متجهة لسد عجز الموازنة وليس إلى مجالات إنتاجية.

حتى البنوك الإسلامية تمارس المسلك نفسه، وربما تكون مُجبرة، وهكذا تراجع نصيب القطاع الخاص من قروض البنوك، كذلك تراجع الدور الاستثماري للبنوك، الذي مارسه بشكل واضح المرحوم طلعت حرب بإنشائه العديد من الشركات الإنتاجية والخدمية من خلال بنك مصر الذي أنشأه، بينما يندر حاليًا أن يقوم بنك بتأسيس شركات جديدة، وعندما تجد عددًا من الشركات في محفظة استثمارات بنك تجد كثيرًا منها متعثرة، وأن غالبية الاستثمارات في سندات الخزانة.

المزج بين إفادة الأفراد وإفادة المجتمع

صحيح أن البنوك قد استفادت من الاستثمارات في السندات الحكومية الخالية من المخاطر، وحققت أرباحًا، ولكن ماذا عن استفادة المجتمع؟ وهو المنطق نفسه عندما يحوّل الكثيرون أموالهم إلى دولارات، وقد ربحوا كثيرًا من تغير سعر الصرف، ولكن ماذا استفاد المجتمع من ذلك؟

لهذا نريد توظيف أموال الجمهور في مشروعات إنتاجية وخدمية، تضيف للمعروض السلعي والخدمي وتزيد من فرص التشغيل، من خلال شركات متخصصة تطرح رؤوس أموالها للجمهور للاكتتاب العام، ومن لا يستطيع المشاركة في ذلك فليتجه لصناديق الاستثمار المباشرة، التي تقوم بدور مختلف عما تقوم به صناديق الاستثمار في الأسهم والسندات، وعن صناديق الاستثمار النقدية التي تستثمر في الودائع وأذون الخزانة.

وطريق الإنتاج طريق طويل وشاق ويحتاج لسنوات، وسيجد إعاقة من الداخل والخارج، سواء من المستوردين أو من الدول الموردة لنا، ومن وصفات صندوق النقد الدولي التي أصبحت مطبقة حاليًا في عدد من الدول العربية، سواء في مصر والعراق والأردن والمغرب وتونس والسودان وموريتانيا وقريبًا لبنان.

والأمر مرهون بتغير بيئة الاستثمار المحلي والإغداق بالحوافز للمنتجين، والعدالة التنافسية بين المشروعات الخاصة والمشروعات التابعة للجهات السيادية، وتحديد المجالات المطلوبة من الاستثمار الأجنبي المباشر للعمل بها، والمناطق الأكثر احتياجًا كي يعمل فيها، وتطفيش استثمار الحافظة الأجنبي المتمثل في الأموال الساخنة، وبشكل عام تغيير البوصلة الاستثمارية للمجتمع، نحو الإنتاج حتى يقل الاستيراد وتستقر سعر الصرف وتنضبط الأسعار وتقل البطالة.

المصدر : الجزيرة مباشر