قراءة واقعية في قرارات العودة والإفراج

ممدوح حمزة

 

 

أعتقد أن الإدارة المصرية، أو النظام السياسي هناك في حاجة إلى التوقف أمام ظاهرة على قدر كبير من الأهمية، تتمثل في تلك الحفاوة الشعبية التي صاحبت عودة الناشط السياسي المهندس ممدوح حمزة إلى أرض الوطن بعد ما يقرب من ثلاث سنوات في النفي الاختياري، بعد وضعه على قوائم الترقب في المطارات، وكذلك الإفراج عن المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، بعد خمس سنوات قضاها في السجن الإجباري، تنفيذًا لحكم محكمة عسكرية، كما الابتهاج أيضًا بالإفراج عن رجل الأعمال صفوان ثابت، بعد أكثر من عامين قضاها في السجن رهن التحقيق.

لا أحد يستطيع إنكار تلك الحفاوة البالغة التي عبر عنها الشارع المصري من خلال المنتديات الخاصة والعامة، ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا، على الرغم مما يصاحب هذه المواقع من رقابة شديدة، كانت كفيلة في حد ذاتها ببث حالة من الخوف والتردد في التعبير عن الرأي والتهاني والتبريكات، التي بدت في معظمها وكأنها تحدٍ للنظام السياسي، على الرغم مما ذكره المهندس ممدوح حمزة في أعقاب وصوله، بأنه وجد ترحيبًا من مسؤول أمني كبير، وتطمينًا مهمًا بأن (مصر ترحب بأبنائها المخلصين)، على حد تعبير ذلك المسؤول.

وعلى العكس تمامًا، لم تكن الأمور بهذا الشكل المريح مع المستشار هشام جنينة، الذي لم يكن الإفراج عنه سلسًا، أو مصحوبًا بخطاب شبيه بالتعبير الأمني السالف الذكر، ذلك أنه تم عرضه على النيابة من جديد في أعقاب الإفراج عنه، وقبل أن يتوجه إلى منزله، باتهامات جديدة تفتقر إلى المنطق، في رسالة مؤداها أنه ما زال تحت مقصلة السجان بين لحظة وأخرى، إذا لم يلتزم الصمت على أقل تقدير، حسبما هو مفهوم في مثل تلك المواقف.

الحبس والنفي

في الأحوال كلها تكشف هذه الأحداث، عن قضية مهمة جدًا في الشأن السياسي والاجتماعي المصري، وربما أيضًا تعرج على الشأن الاقتصادي، وهي تلك المتعلقة بالحبس والنفي، ذلك أن الأرقام المتداولة تتحدث عن ما يزيد على 60 ألفًا في الأولى، و30 ألفًا في الثانية، يمثلون جميعًا صداعًا في النظام ورأس النظام، ومزاج الشارع، وحالة الاقتصاد، وأسواق المال والأعمال، والاستقرار السياسي والاجتماعي، والعلاقات الخارجية، وتقارير المنظمات العالمية ومدى تأثيرها في قرارات الصناديق والبنوك الدولية، إلى غير ذلك من كثير كان من المهم أن تعيه الإدارة المصرية مبكرًا.

ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى ذلك الارتفاع الواضح والكبير الذي شهدته البورصة المصرية، بمجرد الإعلان عن الإفراج عن رجل الأعمال صفوان ثابت، في أعقاب عامين، لم يقتنع المواطن خلالها بأي مبرر لقرار الحبس، كما لم يصدر عن السلطة أي أسباب للإفراج، وهو ما جعل من العملية كلها مثارًا للتندر، الذي يصاحب مثل تلك الإجراءات بشكل عام على مدى السنوات العشر الماضية، والتي أصبح البعض يطلق عليها تعبير (العشرية السوداء).

وإذا كنا نتحدث عن الآلاف أو عشرات الآلاف من الأفراد، ما بين السجن والنفي، فإنه يصبح من الإلهاء والاستخفاف الإشادة، أو حتى مجرد الاهتمام بشخص يعود، أو أشخاص عدة يتم الإفراج عنهم بين الحين والآخر، في وقت يحتاج فيه المجتمع المصري إلى مصالحة حقيقية مع النفس ومع الغير في آن واحد، بعد عقد كامل من أزمة بالغة التعقيد.

وقد أسهم في تصعيد الأزمة، هذه الحالة من الاستقطاب والصراع والكراهية، التي تمّ تغذيتها طوال الوقت من الأطراف كلها، الرسمية وغير الرسمية، وفي الاتجاهات كافة، لأسباب لا علاقة لها بصالح المجتمع من قريب أو بعيد، بل على العكس من ذلك أضرت بالدولة المصرية أيما ضرر، وسط حالة من التغييب اختلطت فيها أوراق الرأي والتعبير، بأصوات الرصاص والإرهاب، ووضعهم في خندق واحد، بل وزنزانة واحدة أحيانًا.

آن الأوان

أعتقد أنه قد آن الأوان لصدور قرارات واضحة وحاسمة، تقضي بالإفراج عن كل المعتقلين والسجناء الذين لم تلوث أيديهم بدماء، بالإضافة إلى أحقية كل المواطنين بالخارج في العودة إلى وطنهم بلا قيد أو شرط، وإعادة النظر في الأحكام التي صدرت بحق البعض من هؤلاء وأولئك، على أسس قانونية حقيقية، بمنأى عن المحاكم الاستثنائية، وفي مقدمتها محاكم أمن الدولة، وإلغاء قرارات الحظر وأحكامه، والمصادرة وسحب الجنسية، وما شابه ذلك، والتي صدرت في ظل ظروف لم تعد قائمة الآن.

يجب الإقرار بأن مصر في هذه المرحلة في حاجة إلى كل أبنائها، ويجب الإقرار بأن كل أبناء مصر مخلصون، ليس من حق أحد التشكيك في وطنية الآخر، وليس من حق فصيل أو جهة الاستعلاء على آخر لمجرد امتلاك عناصر القوة والبطش، هناك الكثير من الإعلاميين الشرفاء ما بين السجون والنفي كان من المهم أن تتصدر قضيتهم برامج وأولويات مرشحي نقابة الصحفيين الآن، هناك الكثير من الأطباء والمهندسين والأكاديميين كان من المهم أن تحمل نقاباتهم على عاتقها قضية عودتهم إلى أعمالهم، إلا أنه الخوف والرعب الذي ساد البلاد وقهر العباد خلال العشرية المنصرمة.

آن الأوان أن تتحمل كل جهة في مصر مسؤوليتها تجاه المواطن، الحكومة كما البرلمان بشكل خاص، ولتكن ردود الأفعال الشعبية تجاه الحالات الفردية السابق الإشارة إليها، بمثابة قاعدة يجب البناء عليها، ذلك أنه لم يعد هناك مبرر لا للنفي ولا للاعتقال، في وقت تعاني فيه الدولة المصرية على كل المستويات، مع الوضع في الاعتبار أن السلام الداخلي في أي من الأوطان هو البداية الطبيعية للنهضة والتقدم، عندما تكون هناك رغبة حقيقية ونيات صادقة.

في الوقت نفسه، يجب الإقرار بأن الحفاوة التي يستقبل بها الشعب قرارات الإفراج والعودة على السواء، بمثابة استفتاء حول أهمية الاستقرار والمصالحة، واستعادة الروح الوطنية التي يجب الاعتراف بأنها فقدت الكثير من مقوماتها خلال السنوات القليلة الماضية، وهو الأمر الذي يجب أن تعيه القوى السياسية أيضًا، خصوصًا تلك التي لم تتعظ من دروس الماضي، وحملت على عاتقها راية الإقصاء لتحقيق أهداف آنية وأنانية في الوقت نفسه، دون الوضع في الاعتبار أنها سوف تصطدم بتوجهات ونضج الشارع عاجلًا أو آجلًا.

المصدر : الجزيرة مباشر