كارثة.. ولكن الطبع يغلب التطبع

وَإِذَا نَظَرْتَ إلى الحياةِ وجدْتَها * عُرسًا أُقيمَ على جَوانِبِ مَأْتم

إن أمتنا تعيش هذه الأيام واحدة من أعظم الكوارث الطبيعية في العالم. آلام متتابعة ومعاناة متزايدة من سيئ إلى أسوأ. حيث تعرضت 10 محافظات تركية ومئات الأحياء السكنية تزامنا مع عشرات المناطق السكنية في سوريا، إلى كارثة لم يشهد العالم مثلها حسب تصريحات الخبراء، ولا شك في أن تلك المناطق في حاجة ماسة إلى المساعدات العاجلة والمتنوعة لإخراج العالقين تحت الأنقاض وتضميد جروحهم وإطعامهم وتخفيف شدة برد الشتاء عنهم وجمع شملهم.

اللهم سَلِّم سَلِّم… إن حجم الكارثة ومدى خطورة الموقف لا يخفيان على أحد، ليس فقط لدى الذين أصابهم الحادث مباشرة، بل إن الأمة كلها صغيرها وكبيرها تشعر بالصدمة والألم كطعنة خنجر في صدر الأمة كلها، آلام يفوق ثقلها وزن الحطام الناتج عن الحادث. وتلك هي أمتنا في الملمات جسد واحد يشد بعضه بعضا ويأخذ بعضه بعضد بعض.

إنه الموت تلك الحقيقة الوحيدة، ورغم أننا نعرفها ونقرأ عنها ونتحدث عنها كثيرا، فإن الزلزال الذي أصبح واقعا بكل ما فيه من خطورة ورعب ودمار، لم يترك لنا أي مجال لشيء آخر سواه، فقد رفع كل المواعيد والخطط والتجهيزات من حياتنا؛ لينفرد هو بكل اهتماماتنا، وفجأة صار كل شيء كذبة إلا حقيقة الموت… فهو أول غائب ننتظره…

كل ما جمعناه في هذه الدنيا، وما أخذناه من الآخرين، وكل ما نظنه يميزنا عنهم، فقد قيمته في طرفة عين… تلاشت المناصب والسلطات والممتلكات والهويات واللغات والصفات الشخصية، وأي شيء يفرق بين بني الإنسان. وكما أثبت علم الاجتماع أنه كلما زادت وسائل الراحة والرفاهية ازداد الناس انطوائية وابتعادا عن الأخلاق الاجتماعية. حتى يصير لكل واحد عالم خاص به وتتمزق أي روابط بين الناس، وتزيد وتيرة التنافس والتناحر والاضطرابات، ولا يبقى أي شي مشترك بين الأشخاص حتى يقطع الموت تلك الحالة الجامدة ويخرج الجميع من الغفلة ويقطع قول كل خطيب.

يرفع الموت عن أعيينا كل ستار، ويصرخ فينا بحقيقة أن الموت يصيب الأفراد والمجتمعات والتنظيمات وكل شيء حولنا، وشغلنا حتى رأينا في ساعة الغفلة أن الأمور ستدوم… فالموت يعيدنا إلى الحقيقة ويزيل كل الحواجز التي أبعدتنا عن بعضنا وأوقعت بيننا العداوة والبغضاء، الموت الذي يخرجنا من بهرج الحياة إلى نقاء الفطرة وبساطة الأمر. وفي تلك اللحظة تظهر الطبيعة النقية للإنسان وبساطته والعجز الذي كان يجتهد في إخفائه فيواسي كل واحد منهم الآخر… فتح الموت العيون وكشف للإنسان الحقيقة.

هوية من تحت الأنقاض

ما أفصح وأجمل ما سطَّره صديقنا جوكان أوزجان في مقالته يوم الخميس بعد مرور 3 أيام على الكارثة: “الكوارث لا تميز بين الناس، فالجميع أمامها سواء كأسنان المشط بغض النظر عن هُوياتهم، فالجميع معرضون لنفس الموقف… الحصار تحت الأنقاض… الأمل في انتظار ساعة الإنقاذ والخلاص… أمام الموت لا فرق بيننا، الجميع واحد… لكن الدنيا هي التي تميزنا عن بعضنا… أودت هذه الكارثة بحياة آلاف الأشخاص، الألم واحد والمعاناة واحدة. ومن ناحية أخرى يهرول ملايين الأشخاص على اختلاف أعمارهم للمساعدة ولا يشغلهم أي شيء سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويبذلون قصارى جهدهم لتخفيف هذا الألم الكبير وليكونوا مرهما لجراحهم البدنية والنفسية. لا أحد ينظر إلى هوية من هو تحت الأنقاض ولا يهتم بمن هو صاحب الصوت الصادر من تحت الركام والهدم، بل يتدافع الجميع في صراع وسباق لا يتوقف على مدار الساعة لإنقاذ كل نفس يمكن نجدتها، ويا لها من صورة رائعة تثبت لنا حقيقة تغافلنا عنها طويلا، الإنسان له قيمة كبيرة لدى أخيه الإنسان… ولكن عندما يبدأ غبار الحطام في التلاشي، فإن غبار تدافعنا اليومي سيخفي في طيات انشغالاتنا مرة أخرى تلك الحقيقة.

التضامن والتكافل هما الصورة الوحيدة التي يمكننا رؤيتها أثناء الزلزال، وكما قال جوكان أوزجان، لقد اتضح أننا في الواقع نهتم ببعضنا ونتبادل الشعور بالمودة والرحمة فيما بيننا لا فرق بين ابن السبع الصغير والعجوز ابن السبعين، الجميع قلب واحد وجسد واحد، حتى المصابون لا ينشغلون بإصاباتهم بل يسارعون للمساعدة في عمليات الإنقاذ والإيواء وخدمة الآخرين في جميع أنحاء البلاد… كل واحد يبذل قصارى جهده. لدرجة أن كثرة الأشخاص الذين يندفعون للمساعدة يزيد التنسيق في مناطق البحث والإنقاذ صعوبة. يعمل أكثر من 100,000 من عمال البحث والإنقاذ المتخصصين أو المتطوعين في الميدان ويقدمون تضحيات كبيرة. وفي الوقت نفسه، لا تتواني جهود البحث والإنقاذ في حطام مئات المواقع لإنقاذ حياة أي إنسان وتقضي ساعات من العمل باحترافية ودقة وصبر في تتبع أي إشارة تدلهم على وجود أي حياة تحت الأنقاض. وتتكاتف في الميدان جميع مؤسسات الدولة، وعلى رأسها هيئة الكوارث (AFAD) ومؤسسة الهلال الأحمر (Kızılay) وجميع مؤسسات المجتمع المدني.

وإذا كان هذا العمل يجري بطريقة مؤسسية منظمة، فإن جميع المشاركين في محاولة منهم لمد يد العون لشعبنا الذي تعرض لكارثة القرن يعملون بروح تطوعية وتضحية تتجاوز بكثير ضرورة الواجب في الدعم والإنقاذ. رغم أنها كوارث فإنها توحد الجميع حتى الأشخاص العاديين توحدهم، وتشجعهم على التضامن والتكافل والإيثار. ولكن ليس كل مجتمع لديه نفس القدرة على الاتحاد والتجرد في مواجهة مثل هذه الكوارث. والأمة التركية بلا شك تسمو على غيرها في مثل هذه المواقف. إنها حقا مظاهر ومواقف وصور مبهرة لدرجة أنها تتخلل أنسجة الإنسان وحواسه وتبلغ قلبه وبصيرته وتضيئها، وتوقظ في المجتمع مكارم الأخلاق، لكن هناك جانبا مظلما إلى حد ما في تلك الصورة وهو للأشخاص الذين خُتِم على قلوبهم وعقولهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولا ينتفعون بضوء الشمس وسط النهار.

وبالطبع كم هو مؤسف أن نرى أشخاصا مشغولين بالنهب والسرقة من بين الأنقاض، رغم انتشار الموت في كل مكان حولهم إلى هذه الدرجة، فحتى الموت لم يتمكن من إزالة الغشاوة من أعينهم، ففي حين يسارع الجميع للمساعدة تجد أصحاب النفوس المريضة ما زالوا يلهثون حول أكذوبة الممتلكات الدنيوية، حتى يصل بهم الجشع إلى نهب ممتلكات العالقين تحت الأنقاض أو ما تركه أصحابه بعد أن أنهى الزلزال حياتهم، لدرجة أنه يمكننا القول إننا لا نعاني من كثرة الزلازل بقدر ما نعاني من تزايد اللصوص.

ولكيلا نكون خياليين أو ممن يعيشون في برج عاجي، فإن الحقيقة هي حدوث مثل تلك التصرفات بعد كل زلزال أو كارثة طبيعية. بعض أصحاب القلوب الميتة من اللصوص يسعون خلف بريق الذهب والدنيا حتى بين الرفات والحطام، ومنهم من يهاجم المحلات والأسواق أيضا؛ ليسرق أشياء لا قيمة لها وربما لا تتاح لهم فرصة استخدامها. إنهم يسرقون أدوات التنظيف وأجهزة التليفزيون… إنهم يبيعون دينهم ودنياهم بلا شيء.

ومع الأسف فهذه سقطة إنسانية لا علاج لها. يبدو أن هؤلاء اللصوص، الذين لا يستطيعون رؤية ما يراه العالم بأسره، ربما فقدوا القدرة على التمييز والتصرف المناسب لكل موقف… إنهم لا يفهمون دلالة ما يدور حولهم … أم أنهم من عالم آخر؟! إنهم فقدوا إنسانيتهم فلم يعودوا يدركون ما يعنيه الموت.

لصوص من أهل السياسة.. حين تكذب فإنك تسرق حق أحدهم في الحقيقة

ومن هؤلاء أيضا لصوص سياسيون، تناسوا ما يعيشه الناس من آلام وسط هذه الكارثة التي لم تفرق بين الإنسان والحيوان والجماد، لدرجة أن مصطلحات السياسة والسلطة والمعارضة أصبحت من دون معنى، وظهر لصوص سياسيون يتلمسون أي مكان فيه قوة يمكن سرقتها، إنهم لصوص شغوفون بتقييماتهم وشغل المجتمع بوسائل التواصل الاجتماعي… إنهم لا يختلفون مثقال ذرة عن الذباب الذي يحوم فوق الأنقاض ليلتقط المسروقات التي يظنها واهما غنائم… فالخداع سياسة وغنى اللصوص براعة.

يقف أوميت أوزداغ وكمال كليتشدار أوغلو وغيرهما، متجاهلين كل العمل المنجز والتضحيات وتواصل العمليات ليل نهار في مئات المواقع، ويكذبون ويصدقون كذبتهم، ويدعون أنه لا يتم فعل أي شي… ويطوفون بلعابهم وآلات التصوير الخاصة بهم، ببعض الأماكن المتضررة قبل أن تصلها فرق البحث والإنقاذ؛ ليلفقوا ادعاءات وأكاذيب من وحي خيالاتهم.

وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ * إِذا احتاجَ النَّهارُ إِلى دَليلِ

لا يسعنا إلا أن نتساءل كيف وجد أوزداغ مزية في تلفيق كذبة أنه يتم إنقاذ أعضاء حزب العدالة والتنمية فقط من تحت الأنقاض. لا شك أن ذلك فقط في خياله الخاص الذي يكشف إلى أي مدى يمكن للشخص أن يهوي إلى قاع الضلال. بالطبع، لم تسقط البشرية بقدر ما سقطت في خياله، ولا يستحق حتى الإجابة.

لكنني أعتقد أن هؤلاء اللصوص يستحقون عقابا لا يقل ردعا عما استحقه وحصل عليه لصوص الحطام من العقوبات التي شهدناها بكثرة.

المصدر : الجزيرة مباشر