مقاطعة التجار غير واقعية.. وهل الأزمة عندهم أم الحكومة؟!

تتكرر الدعوات الموجهة إلى المصريين من الحكومة، ومنابر الجمعة، والإعلام، والكتائب الإلكترونية، بمقاطعة التجار الذين يُغالون في الأسعار، فإذا ما واجهت بضاعتهم البوار، فإنهم سيخسرون، ولتجنب ذلك سيعودون إلى البيع بالأسعار المعقولة.

هذا تصور سياسي ديني إعلامي لمواجهة غول الأسعار، لكنه تصور غير واقعي، وانعزالي عن حقيقة الأوضاع في الشوارع والأسواق والمتاجر ونبض الجمهور.

في المستوى الأخير من حركة السلع، فإن المشكلة ليست عند البائع، فتاجر التجزئة الذي يتعامل معه المستهلك مباشرة ليس مسؤولًا عن الارتفاعات المتتالية في الأسعار، فهو طامح إلى هامش ربح يجعله مستمرًّا في تجارته، فلا يتعطل أو يغلق نشاطه، وهذه حقيقة نعايشها يوميًّا مع الباعة، فالسلعة تصل إليهم مرتفعة الثمن، وهم يضعون مكسبًا محدودًا وإلا كسدت عندهم أو خسروا رأسمالهم الذي دفعوه فيها، وهذا يحدث في مختلف القطاعات سواء السلع الغذائية أو منتجات ومتطلبات النشاط والحياة.

ركود عام

في محل الدجاج لم أجد زبائن بنفس الكثرة كما كان في السابق، وكذلك عند الجزار وبائع الأسماك والمجمدات والحبوب والبقوليات، ومحال الخضراوات والفاكهة والألبان ومنتجاتها وغيرها من ضروريات المعيشة.

المتاجر بمختلف نشاطاتها تبحث عن مشترين، الزبون صار شحيحًا، الأسعار قياسية وقاسية، وإذا كانت السلعة قد وصلت إلى البائع مرتفعة الثمن، فماذا يفعل؟ بالطبع لن يبيع بالخسارة. ومع هذا هناك من يخسر بالفعل من ركود السلع عنده وتباطؤ دورة رأس المال المدفوع فيها؟

والتاجر يقلل كمية السلع التي يشتريها حتى لا تبور وتفسد، أو يخفض ساعات فتح دكانه، وهناك من يغلق محله لأيام، هو ركود عام لا يترك نشاطًا إلا ويؤثر فيه.

قال لي جزار إنه كان يذبح 3 أو 4 عجول خلال أيام معينة في الأسبوع، ويذبح عجلين خلال أيام أخرى، لكنه اليوم يذبح عجلًا واحدًا، وأحيانًا يتقاسم الذبيحة مع جزار آخر، وفي محل للدجاج رأيت عددًا قليلًا من الفراخ البيضاء في قفص وحيد بعد أن كان يأتيه أربعة أو خمسة أقفاص يوميًّا.

مخازن حديد التسليح والصاج والصلب ومنتجاته تئن من الركود كذلك، فلا مشتر مع الأسعار الفلكية لها، وتجار الإسمنت والزلط والرمل والسِن والطوب ينتظرون زبائن، وفي الحدايد والبويات والعدد والآلات والأخشاب والسيراميك والأدوات الصحية ومستلزمات الكهرباء يحدث نفس الأمر.

وصناعة المعمار أصابها ضرر بالغ، ومئات ألوف العاملين فيها متعطلون، أو يعملون في أنشطة هامشية، وهناك حرفيون هجروا ورشهم واتجهوا إلى العمل على (التكاتك) لنقل الناس داخل القرى والأحياء، وكذلك الأمر في الموبيليا والسيارات والنقل وقطع الغيار.

 محال شبه فارغة

ومحال الملابس والأحذية والأجهزة الإلكترونية تجدها شبه فارغة رغم التخفيضات الموسمية، ومطاعم الأكل تواجه تناقص عدد مرتاديها أو انخفاض مشترياتهم، حتى محلات الفول والفلافل (الطعمية) والكشري، وهي الأكلات الشعبية الرخيصة التي كانت في متناول أقل الناس دخلًا، صارت خارج نطاق قدرة بعض المواطنين، وهكذا الوضع يبدو في مختلف الأعمال والقطاعات والأنشطة والحرف والمهن، وهي حالة عامة مقلقة لم تمر بها البلاد من قبل.

ولا ندافع هنا عن التاجر، إنما نرصد حركة السوق، وواقع التعامل اليومي بين الفرد والتاجر، وللعلم فإن ربح البائع كان أفضل عندما كانت أسعار السلع رخيصة لأن الإقبال والبيع كانا أكبر.

جنون الأسعار وأزمة الاقتصاد

وإذا كانت هناك مغالاة في الأسعار، وفق خطاب الحكومة، فإن المشكلة والأزمة تكون عند مصدر ومنشأ السلع، وهو المنتج والصانع والمستورد والمحتكر، وهي تعرف هؤلاء، فكيف تتركهم يحولون الحياة إلى نار لاهبة، هذا إذا كانوا بالفعل هم من يُغالون في الأسعار، وكأنهم لا يقرون بوجود رقابة ولا سلطة.

لكن، لماذا لا تقول الحكومة إن جنون الأسعار نتيجة طبيعية لحالة الاقتصاد المأزوم، وانخفاض قيمة العملة الوطنية (الجنيه)، وازدياد حجم الاستيراد، وقلة الإنتاج، والديون القياسية، والمشروعات القليلة الجدوى، أو التي لم يكن لها ضرورة آنية، أي أن المشكلة خارج مسؤولية التجار والناس بنسبة كبيرة.

لماذا لا تتحدث عن أننا نستورد كثيرً جدًّا، وما لدينا من نقد أجنبي قليل جدًّا، وأن ديوننا زادت عن الحد المقبول، وأقساط وفوائد الديون تلتهم جانبًا معتبرًا من حصيلة النقد الأجنبي، بل صرنا نستدين لتسديد ديون حان وقتها.

أموال هائلة

لماذا لا تتذكر السلطة أنها خلال عقدها الأول (2013-2023) حصلت على أموال سخية؛ مساعدات لا تُردّ وودائع من الأشقاء بالخليج، وقروض كثيرة، وأموال ضخمة من الزيادات الكبيرة في نسب الضرائب والرسوم المُحصلة من جميع المعاملات مع الجهاز الحكومي.

أموال هائلة دخلت الخزينة العامة، لم يدخل مثلها خلال عهود سابقة شهدت حروبًا وأزمات طاحنة، ثم يصل بنا الحال إلى هشاشة الجنيه، وتهافت قيمته الشرائية، ووصول ثمن البيضة إلى أربعة جنيهات بعد أن كانت بأربعة قروش، ويصبح تدبير وجبات الطعام “همًّا” عند أسر كانت ميسورة الحال.

هذه الأموال العظيمة كانت تكفي وتزيد لتشغيل وتأسيس مصانع ومزارع وتنفيذ مشروعات تنموية ذات عوائد فورية ودفع عجلة العمل والإنتاج وتحقيق الاكتفاء في سلع كثيرة لتقليل فاتورة الاستيراد ورفع سيف الحاجة إلى العملات الصعبة عن رقابنا.

هذه الأموال كانت تكفي لتطوير جاد في التعليم وتقديم خدمات صحية لائقة وآدمية، وليس التطوير بالشعارات والتصريحات والتجارب المتسرعة غير المدروسة.

ضوء على الطريق

المشكلة ليست عند التجار، ودعوات المقاطعة مريحة للسلطة، لكنها غير واقعية، لأنها قد تشمل كل شيء تقريبًا حتى الضروريات، فالأسعار لا تتوقف عن الارتفاع، وبنفس النسبة في كل المتاجر.

جوهر المشكلة في نمط التفكير، وطبيعة التخطيط، وصنع السياسات، وإدارة الشأن العام، والفرص لم تتبدد؛ إذ لا يزال هناك وقت وأمل في الإصلاح، والمصريون مع الاستقرار، ولديهم مزيد من الصبر، المهم أن يجدوا ضوءًا على الطريق.

المصدر : الجزيرة مباشر