العلمانية والقتل لأهوَن الأسباب.. أين المشكلة؟

نيفين القباج

 

شهدت الآونة الأخيرة تزايدا ملحوظا لجرائم القتل في الشارع المصري على خلفية أسباب سخيفة تافهة وهيّنة، لا تستحق هذه الدماء التي تُراق، مع لجوء الكثير من الأفراد إلى “العنف” بدرجات متفاوتة، سبيلا لإدارة خلافاتهم. قد تبدأ جريمة القتل بـ”مشادة كلامية” حول مشكلة بسيطة، تتطاير خلالها ألفاظ عنيفة، سُرعان ما تتطور إلى اشتباك مادي ينقلب إلى القتل، بألة حادة أو سلاح ناري، جهارا نهارا، دون وازع أو رادع قانوني أو اجتماعي أو تربوي أو ديني. يحدث هذا تكرارا، وإن اختلفت التفاصيل، بينما المجتمع وأجهزته المعنية شبه غائبين، فليس هناك أبحاث ودراسات علمية رصينة وجدية للوقوف على أسباب هذا “العنف” الآخذ في النمو والتزايد، والمُنذر بمخاطر اجتماعية كبيرة، حال تحوله إلى ظاهرة عامة، قد تفضي إلى الفوضى في نهاية المطاف إن لم يتم لجمه.

الوزيرة.. وزيادة العلمانية والخلل النفسي للطبقة المتوسطة

الأخطر في قضية العنف هو تسطيحها والإفتاء فيها بغير علم، والكارثي أن تأتي الفتوى مبنية على الجهل بجوانب المشكلة وأسبابها من مسؤول كبير. مثالا على هذا التسطيح، نشير إلى تصريح وزيرة التضامن الاجتماعي الدكتورة نيفين القباج أمام مجلس الشيوخ، بأن دراسة أجرتها الوزارة استهدفت الطبقة المتوسطة، كشفت أن جزءا كبيرا من العنف لدى الشباب تجاه أُسرهم لا يرجع إلى الفقر، إنما بسبب الخلل النفسي، خاصة مع زيادة “العلمانية” في ظل غياب القيم الدينية والامتداد الأسرى. لا أدري أي دراسة هذه التي تتحدث عنها الوزيرة، وقد افترضت أن أبناء الطبقة المتوسطة يعانون خللا نفسيا بالعموم. ربما أرادت تبرئة “الفقر” من أن يكون له دور في المشكلة، لكن التعميم ينافي الطبيعة البشرية ومخرجات علوم النفس، فهناك فروق فردية بين الأفراد، فلا تتطابق طبائعهم ولا يصابون جميعا بالخلل نفسه، سواء كان نفسيا أو غير نفسي، وآية ذلك اختلاف طبائع التوائم رغم التطابق الشكلي التام بينهم. أما أن “العلمانية” وقلة التدين وراء العنف الأسري فهو كلام يحتاج إلى مراجعة، فالعلمانية لا تدعو إلى العنف بل إلى سيادة القانون على الجميع، كما أن هناك متدينين كُثرا يرتكبون جرائم قتل، وتكفي الإشارة إلى الدواعش، وأفراد الجماعات المتطرفة الذين يعدّون أنفسهم الأكثر تدينا، هذا بخلاف حوادث قتل فردية سابقة لمسيحي على يد مسلم متطرف.

 تقتل زوجها بالسم وتحرق جثته.. والقتل بالرصاص مقابل إطلاق سراح “كلب”

جرائم القتل هي قضية هذا المقال وموضوعه، وليس “العنف الأسري” الذي قد نعود إليه لاحقا. لكن التعاطي المجافي للعقل والمنطق والعلم لـ”المشكلة” -أي مشكلة- يترتب عليه تعقيدها وليس حلها. فقد قُتل شاب أمس (الاثنين) في ضاحية المطرية بالعاصمة المصرية القاهرة، أطلق عليه شقيق زوجته الرصاص، فأرداه قتيلا، لقيام الأخير بإطلاق سراح “كلب” ربطه المتهم بالقتل في مدخل العقار بما أرعب ابنة القتيل وأخافها. وقبل ثلاثة أيام، أقدمت “زوجة شابة” بمركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية على قتل زوجها “مرتين”. دسّت له السم في الطعام، وتأكدت من موته، ثم سكبت عليه ست زجاجات بنزين -وكانت زجاجة واحدة تكفي- وأشعلت فيه النيران، وأغلقت عليه الغرفة، لتتفحم جثته، وفرّت إلى بيت أهلها، حسب ما نشرت مواقع صحفية. الزوجة بررت فعلتها أمام أجهزة الضبط والتحقيق، بالانتقام منه لتعمّده إهانتها.

 تأييد إعدام قاتل نيّرة نهائيا.. ولماذا الانتقام البشع الذي يقود إلى المشنقة؟

منذ أيام، أيدت محكمة النقض الحكم الصادر من محكمة جنايات المنصورة، بإعدام الشاب الجامعي محمد عادل، قاتل زميلته نيّرة أشرف، عمدا في شهر يونيو/حزيران الماضي، نهارا، وذبحا أمام جامعة المنصورة، مع سبق الإصرار والترصد، على خلفية رفضها خطوبته والزواج منه. ثم تكررت وقائع مشابهة لقضية نيّرة بمحافظتي المنوفية والدقهلية، وأحدهم تفاخر في بث مباشر بجوار جثة خطيبته، بعد أن أجهز عليها. في كل جرائم القتل السابقة، وغيرها الكثير، لم يكن هناك ما يستدعي القتل، فهذه الشابة المتهمة بقتل زوجها سمّا وحرقا، كان يمكنها طلب الطلاق أو حتى الخُلع، فمثل هذا الحل متاح قانونا، وأقل كُلفة من هذا الانتقام البشع، الذي قد يؤدي بها إلى حبل المشنقة، أو ربما المكوث بقية عمرها بالسجن المؤبد. كما أن الشاب محمد عادل وأمثاله، كان يمكن للواحد منهم أن يبحث عن فتاة أخرى ترضى به خطيبا وزوجا عن طيب خاطر، ويتجنب هذا المصير المُهلك على المشنقة، وكذلك الكثير من حالات القتل، كما أن الشاب قاتل زوج شقيقته، لم يكن بحاجة إلى الرصاص وإنهاء حياة شقيقته التي ترملت، وتيتمت طفلتها، إذ الخلاف حول “الكلب” لا يستدعي قتل إنسان، ولا حتى قتل الكلب، وغير هذا وذاك الكثير من الحالات المماثلة.

السؤال: لماذا يلجأ الناس إلى إدارة خلافاتهم بهذا العنف الذي يصل إلى حد القتل لأتفه الأسباب، بعيدا عن القانون أو حتى القواعد الاجتماعية المتعارَف عليها، بالتفاهم، وحل الخلافات وديا؟ في العقود الثلاثة الأخيرة، تولدت قناعة لدى الكثيرين، راحت تتضخم تدريجيا، بأن الأفضل للمرء هو استخلاص حقه بيديه، بعيدا عن القانون، والنظم الاجتماعية التي “كانت في ما مضى” ضابطا للسلوك، ومانعا لانفلاته ورادعا.

المخدرات والتدني الخُلقي الناتج عن تراجع دور المؤسسات الثقافية والتربوية والشبابية المعنية، وتبنّي “الدراما” فكرة تمجيد القاتل لمجرد تلميع ممثل وإظهاره “نمبر وان” دائما. كما أن لهاث الأسرة لتدبير الطعام واللوازم الضرورية للمعيشة، نتيجة الفقر الذي يضرب الملايين ويمسك بخناقهم نفسيا، ويخلق داخلهم طاقات مكبوتة تنفجر في مثل هذه المشكلات التافهة.

ليت الحكومة تهتم بهذه المشكلة، وتعمل على دراستها علميا وعلاج جوانبها الثقافية والتربوية والاجتماعية والمعيشية، لا سيما وأن القتلة صاروا يحصدون تعاطفا على مواقع التواصل الاجتماعي، مثلما حدث في جرائم قتل نيّرة وغيرها.

نسأل الله السلامة لمصر.

المصدر : الجزيرة مباشر