في ذكرى رحيل مالك الحزين

ستبقى هزيمة 1967 جرحاً غائراً في جسد هذه الأمة، لم يعترف القادة بهذه الهزيمة حفاظاً على عروشهم، فأسموها نكسة، والغضب الشعبي تمّ احتواؤه، ومن ثم ترويض الشعوب باسم السياسة الواقعية وفن الحصول على الممكن. لكن شمس الخامس من حزيران تأبى الغروب في أذهان بعض رجالات الأدب والفكر، تأبى شمس ذلك اليوم الغروب في أذهان الغاضبين أمثال إبراهيم أصلان وعدد لا بأس به من الشعراء والأدباء ممن أُطلق عليهم لقب “كتاب الغضب” حافظ هؤلاء الكتاب على الجرح ندياً وحملوه في قلوبهم وفي كتاباتهم يستصرخ الهمم بكل الطرق الممكنة، بحثوا في الأسباب كثيراً وشخّصوا المرض بدقة، بعضهم بقي مغموراً لأن الإعلام الرسمي لديه منطق مختلف وإرادة متسلطة، وبعضهم فرض نفسه على التاريخ.
لم يكن إبراهيم أصلان بطبعه الخجول والانعزالي مؤهلاً لأن يتبوأ منصباً رائداً في الأدب السّلطوي. فمنصب الرّيادة يحتاج لمؤهلات وكاريزما لم يكن يملكها، في حين امتلكها يوسف إدريس ويوسف السّباعي وكلّ الكتّاب الذين لمع نجمهم في عهدي عبد النّاصر والسّادات. لكن الصّدفة خدمت إبراهيم أصلان وانتشلته من قائمة الكتّاب المغمورين فجاءت فرصته الكبرى بتحويل عمله الرائع “مالك الحزين” إلى فيلم سينمائي. جسّد شخصية البطل فيه العبقري الرّاحل محمود عبد العزيز، فبرز اسم إبراهيم أصلان الذي استطاع أن ينقل قسوة الواقع بدقة دون تنظير أو توجيه.
الكيت كات والشّيخ حسني
من إمبابة وتحديداً في منطقة “الكيت كات” نشأت شخصية الشيخ حسني التي رسمها إبراهيم أصلان بدقة فكانت شخصية معقدة ومركبة، تحوي كلّ المتناقضات التي يمكن أن تجسّد وتمثل الإنسان المصري الأصيل، البساطة والطيبة، الانفعال والقوة، الدهاء، والرّوح الفكهة. للحظات يمكن أن ترى كلّ هذا في شخص واحد وأيضاً كفيف البصر! لتأتي فيما بعد السّينما وعبقرية الأداء وتمنحها العمق والحضور الذي هيمن على السّاحة الإبداعية “المرئية” والمكتوبة ردحاً من الزمن.
دقة الشّخصية التي أتقن رسمها المبدع إبراهيم أصلان يكمن في كون الشيخ حسني كفيفاً مما أتاح له جعلها شخصية مركبة ومعقدة وطريفة في آن واحد. ومن عادة الجمهور السينمائي أن ينجذب للطرافة والكوميديا ويهيم بالأفيهات الظريفة، وذلك كهروب من واقع قاس وتفريغ لحالة الضغط الذي يمارسه هذا الواقع على الإنسان عموماً، إلا أن البعد الرمزي لهذه الشخصية يولد في النفوس مجموعة من الأسئلة التي يفترض أن تكون غاضبة بالفعل، فهو كفيف بالفعل لكنّه يمتلك القدرة على إيهام الجميع بأنّه مبصر، وطبعاً بمساعدة بسيطة من عامل المقهى. كيف استطاع هذا الأعمى قيادة عدد كبير من العميان والمبصرين لمواقف تجعلهم في نهاية المطاف يشعرون بالخجل من غبائهم، لكنهم يبتلعون خساراتهم بصمت. فهل يمكننا طرح التساؤل في مستوى أعلى قليلاً وأكثر مباشرة: كيف استطاع قادة الأمة أن يقودوا هذه الشعوب إلى مثل هذه الخسارات؟ تلك هي الرؤية الفكرية لصاحب “مالك الحزين” وهو الذي شغله سؤال على غاية من الأهمية مفاده (لماذا خرج الطلبة في عام 1972؟ ولماذا خرج الفقراء في عام 1977؟) ومجرد طرح هكذا تساؤل يكفي ليرد الاعتبار للطبة في ذلك الزمن الذين وصفهم الرئيس المؤمن بالعيال، بكلّ تأكيد امتلكت الحركة الطلابية في ذلك الوقت قدرة على استشراف المستقبل، في حين ينتظر الفقراء حتى يجوعوا فيخرجون.
بين طه حسين وإبراهيم أصلان
مقبوس:
(إنّ هذه الكلمة الجليلة -كلمة شيخ- لا تعني في إمبابة أنّ من يحملها سوف يصبح من رجال الله الصالحين مثل الشيخ جنيد. أبداً. هذه الكلمة في إمبابة معناها أن الأمر لابدّ أن ينتهي بصاحبها حتماً، مهما كان مركزه، إلى أن يصير مقرئاً في قرافة سيدي حسن أبو طرطور. لذلك كره هذه الكلمة ولم يلبس أبداً عمّة ولا جبة؛ لأنّه كان من يومه لا يهوى إلا الفنون….. ثمّ قال فجأة إنّ الدكتور طه حسين نفسه لم يبذل أيّ جهد في هذه الناحية، أمّا هو فقد دخل معارك لا يمكن تصورها…ولكن هذا لا يمنع أنّ عميد الأدب العربي لبس العمّة.)
في المقبوس السابق وعلى لسان الشيخ حسني يمكن أن يذهب بنا التأويل بعيداً حيث تعكس إمبابة صورة مصر وتعكس كلمة شيخ -بعد أن فُرّغت من محتواها ودلالتها الحقيقية- صارت تعكس صورة الجوقة المنطوية تحت السلطة، وإذا ما أردنا الاستئناس بدلالات المثل الشعبي المصري (لَبّسوه العمّة) بما فيه من سخرية لاذعة فإنّنا نستطيع القول إنّ إبراهيم أصلان يتخذ موقفاً نقدياً حاداً يطال شريحة المثقفين النخبويين الذين لم يضعوا كرامة المواطن في حساباتهم الفكرية، وأنهم (لبسوا العمّة) و(شربوا المقلب).
لقد استحق إبراهيم أصلان جائزة طه حسين عن روايته “مالك الحزين”. فهل كان من قبيل الصدفة أن تكون الشخصية الرئيسة في الرواية شخصية كفيف؟ بكل تأكيد لم يكن ذلك صدفة، فالكارثة التي يعيش فيها المواطن العربي عموماً ما هي إلا نتاج استسلام هذه الشعوب لحالة الجهل والتجهيل والخضوع لحكام فاقدي البصر والبصيرة معاً.