ماذا تريد المبادرة المصرية من السودان؟

العلاقات السودانية المصرية محكومة بتعقيدات سياسية، وتاريخ طويل مشحون بالحساسيات والمخاوف المكتومة، إلى جانب تجاذبات قضيتي حلايب وشلاتين ومياه النيل كذلك، وهو ما جعل القاهرة كالغريب، تتفرج على ما يحدث في السودان، فلا هي تريد أن تدعم الثورة، ولا هي حفية بتجربة الحركة الإسلامية، وتخشى أيضا أن تطالها الاتهامات بدعم طرف ضد الآخر، ولذلك فهي في حيرة من أمرها.
طوق نجاة للبرهان
مؤخرًا، وفي خطوة جريئة، قام مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل بزيارة للسودان، تجاوزت الطابع السري، هذه المرة، وقدم مبادرة لاحتواء الأزمة السياسية، لكن تلك المبادرة الغامضة تباينت حولها الآراء، حيث رفضتها قوى الحرية والتغيير، التي قطعت شوطًا في التفاوض مع المكون العسكري، وتريد أن تستولي على السلطة لوحدها، وتقضم قضمة كبيرة مرة أخرى.
وفي المقابل رحبت بها قوى سياسية ومدنية معتبرة، على رأسها الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، بقيادة محمد عثمان الميرغني، وهو حزب عريق وراسخ كان يدعو إلى وحدة وادي النيل، كما رحب بها أيضا رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة محمد الأمين ترك، الرجل الأقوى حاليًّا في ساحل البحر الأحمر بشرق السودان والأكثر شعبية، فضلًا عن الدعم الظاهر والخفي للمبادرة المصرية من قبل الفريق عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش السوداني.
وتبدو هذه المبادرة بمثابة طوق نجاة، ألقت به مصر إلى البرهان في توقيت حرج، لتزيح عن صدره صخرة الاتفاق الإطاري، الذي يطالب بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، وتضمن له، على الأقل، العودة لحلفاء الجيش من المدنيين، الذين دعموه طويلًا، وفقدوا فيه الثقة، وفي مناوراته العجيبة التي لا تنقضي.
صراع دولي على موارد السودان
ربما كان أكثر ما أزعج مصر، هو رفض قوى الحرية والتغيير القاطع، لتحركاتها الأخيرة في الفضاء السياسي السوداني، إلى حد أن أحزاب وجماعات سياسية كانت صديقة للقاهرة، وأدارت كافة معاركها ضد نظام البشير من هنالك، لكنها هذه المرة قالت لا لمصر، وقدمت نقدًا صريحًا لأسلوب ومنهجية الحكومة المصرية في التعامل مع الأزمة السياسية السودانية، وهو رفض لا يمكن تبريره بمنطق السيادة الوطنية ورفض التدخلات الخارجية، لأن قوى التغيير ارتمت في أحضان البعثة الأممية بقيادة فولكر بيرتس، واستسلمت لاتفاق إطاري مختلف حوله، أعدته مطابخ وسفارات أجنبية، لا تريد أي خير للسودان، وتعمل على تسويق شخصيات بعينها لتقوم بحماية مصالح الخارج في وقت يعاني فيها السودان من صراع المحاور، والمطامع الروسية والأمريكية في موارده، وهذا إن لم يكن هو السبب الوحيد، فهو الدافع الأول لتلك التحركات، التي لا ترى فيها قوى الحرية والتغيير ما يعيب، ولكنها تعيب على مصر سعيها للتعامل مع التطورات السودانية، ودعم العملية السياسية، دون إقصاء لطرف، وترك السودان نهبًا للغرباء، وأنشطتهم الاستخبارية في وضح النهار. فكيف يستقيم أن تقبل تدخل الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو للاتفاق الإطاري، وترفض تدخل مصر بل تحرّض عليها؟!
مخاوف انتقال العدوى
لا شك أن مخاوف مصر مما يجري في السودان ، تعاظمت مؤخرًا، بعد أن فقدت القوة العسكرية السيطرة على الأوضاع، وتحول المشهد برمته إلى قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة، على نحو سوف يرمي مصر تحديدًا بِشررٍ كالقَصر، ولا سيما أن عدم الاستقرار الأمني وتناسل المليشيات العسكرية، ونشاط الخلايا الإرهابية، في مرحلة لاحقة، كل هذا سوف يؤثر في الجارة القريبة، وربما تنتقل العدوى إلى هنالك، بشكلٍ يهدد الأمن القومي المصري، خاصة مع تنامي الجالية السودانية في مصر، التي وصلت إلى أكثر من ستة ملايين سوداني، كثير منهم دفعته الظروف الأمنية والانهيارات الاقتصادية إلى الهروب والاستعصام بالجارة الشمالية، التي تعاني هي كذلك من أزمات اقتصادية عنيفة، وهذا يعني أن العدد سوف يرتفع، وربما نشهد هجرات سودانية متتابعة ونزوحًا بالجملة، في حالة الانهيار الكلي، وبداية الحرب الأهلية التي تلوح نُذرها في السودان.
المواجهة الاستخبارية
من هذا المنطلق تُفهم التحركات المصرية الأخيرة في السودان، دون أن تظهر مبادرة بعينها، بملامح واضحة، وإنما هي دعوة إلى حوار سوداني تحت مظلة مصرية، وهنا يبرز التحدي الأكبر، الذي لا أعرف كيف سوف تتعامل معه مصر، وهو أن الاتفاق الإطاري تقف خلفه دول صديقة لمصر، وتوفر له التغطية السياسية والمالية، كما تتقاطع حوله الأجندة الأمريكية، وهي دول حليفة لمصر، فكيف ستضع نفسها في مواجهة تلك الدول وهل سوف تنجح بالفعل في سحب البساط من تحت أرجلها، حتى ولو أدى ذلك الدخول في حروب استخبارية معها؟
الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على استراتيجية مصر في التعامل مع تعقيدات الملف السوداني من ناحية، ومن ناحية أخرى تعتمد، وهذا مربط الفرس، على التعاون مع الجيش السوداني، إذ إن مفتاح الأزمة بيده، وهو الوحيد الذي بمقدوره تكوين الحكومة، أو الذهاب إلى الانتخابات، ولا سيما أن المؤسسة العسكرية، تعتبر نفسها الجهة المؤسسة للسلطة الانتقالية، حيث آلت إليها مقاليد الأمور، بعد سقوط نظام البشير، بل لا تُخفي شبهة الانقلاب العسكري، الذي تولت كبره اللجنة الأمنية بقيادة الفريق أول عوض بن عوف، وفتحت القيادة العامة للمحتجين، لاكتساب شرعية سياسية، ثم نقلت الكرة إلى الفريق البديل بقيادة البرهان وحميدتي ولزمت الصمت تمامًا! وهي حلقة مفقودة في ذلك التغيير، تفسر دوافع تشبث البرهان ومن خلفه بالسلطة.
المطلوب من مصر
المبادرة المصرية، التي يبدو أنها سوف تلقف بقية المبادرات، حظيت بمجرد إعلانها، بدعم ومباركة الحركات المسلحة والطرق الصوفية والأحزاب اليمينية والكتل السياسية التقليدية، ومع ذلك فإن الطريق أمامها أيضا غير ممهد، وتحتاج إلى عمل سياسي وإعلامي مكثف، وإقناع الممانعين، لتعبر مُعضلة الحساسيات القديمة، والإفصاح أكثر عما تريده من السودان، أو بالأحرى مخاوفها التي دفعتها إلى التحرك أخيرًا، ومن ثم فتح صفحة جديدة، فوق تقلبات المِزاج السياسي، تحفظ بالضرورة مصلحة الشعبين، وتدرأ عن السودان مخاطر تتربص به من كل جانب، دون أجندة خفية أو ذلك الحياد السلبي.