أفغانستان كما رأيت 4/2 “كابل من الداخل”

 

في أفغانستان رأيت خلقا آخر معتزا بعقيدته وهويته، وعاداته وموروثاته على أي حال كانت، بل نحت لنفسه من صفات الخير ومكارم الأخلاق ما يجعله متفردا في ذلك، وبالمثال يتضح المقال؛ فقد اشتهرت شعوب كثيرة بإكرام الضيف، ولكن الأفغان انتقلوا من درجة الإكرام إلى الإجلال، المقترن بنوع من الحياء من جنس حياء الولد البار من الآباء الكبار، أو الطالب النجيب من شيخه المَهيب، والعالم كله يعرف كم كلفهم عدم خذلان الضيف من أثمان، وسأضع بين أيديكم أهم المشاهدات التي علقت بذاكرتي وبقيت في مخيلتي، وكنت إذا اطلعت عليها حفظتها بغية أن أقصها عليكم.

أولا:

كنت أتوقع استقبالا مختلفا في مطار كابول، لكن ما قابلنا به القوم من حفاوة الاستقبال الرسمي، ومقابلتنا بما تقابَل به كبار الوفود لم يخطر لي ببال، لا سيما طواقم الحراسة المختلفة بسياراتهم المصفحة، مما غنموه من الأمريكان، أما السيارات اليابانية فئة (لاند كروزر) وأخواتها فهي “زي الرز”، وهي مما خلفته دولة خليجية كانت تدعم الحلف الأمريكي بقوة، وما أعجبني “سخاؤها”.

ثانيا:

المكاتب الحكومية والفنادق تدلك على أن أمريكا كانت تظن أنها ستبقى طويلا في أفغانستان، وأكثر ما تعجبت له أن أبواب غرف الفندق -وهي من الأبواب الحديثة- تغلَق من الداخل بمتراس حديدي ضخم، كالذي في أبواب القلاع القديمة، وتُصدر صوتا يوقظ الجيران، وعلمنا أن الأمريكان وضعوها لأن المجاهدين دخلوا عليهم الغرف مرتين!

ثالثا:

كان وفدنا من أربع دول عربية، مصر والسودان وليبيا وفلسطين: د. محمد عبد الكريم عن رابطة علماء المسلمين، ود. عبد الحي يوسف عن علماء السودان، والشيخ سامي الساعدي عن رابطة علماء المغرب العربي ودار الإفتاء الليبية، ود. نواف تكروري رئيس هيئة علماء فلسطين. واتفق الوفد جميعا أن العاصمة كابل أنظف من كثير من العواصم العربية المستقرة منذ عقود، حيث كان لافتا لنا جميعا نظافة العاصمة التي يقطنها سبعة ملايين نسمة، وأسواقها عامرة مع ما تعانيه من حصار خارجي خانق، وحركة المرور فيها منتظمة، لا سيما وأن الشوارع والميادين الكبرى يوجد بها أفراد من الحركة بهيئتهم وكامل عدتهم إلى جوار رجال المرور.

رابعا:

درجة الحرارة كانت 7 تحت الصفر، وذكروا لنا أنها تصل في ذروة الشتاء إلى 18 تحت الصفر، وجاءت عاصفة ثلجية أثناء وجودنا كست الشوارع بالبياض، واشتعلت الأشجار شيبا، ثم خرجنا في الصباح الباكر فوجدنا العمال قد فتحوا الطرق، وأزالوا الثلوج بما يسمح بحركة السير من خلال ما لديهم من معدات بسيطة تحملها أذرع قوية.

خامسا:

من الملاحظ في شوارع أفغانستان قلة عدد المتسولين على خلاف عادة العواصم الفقيرة، وعلمنا أن الإمارة الإسلامية قامت بحملة جمعت فيها كل المتسولين من الشوارع، ومن وجدته محتاجا وفرت له القليل الذي يغطي الضرورات، ومن كان محترفا أنذرته بالعقوبة إن عاد إلى التسول مرة أخرى.

سادسا:

من لا يرحبون بتجربة حكم الإمارة الإسلامية في أفغانستان، يشككون في قضائها على زراعة المخدرات، ويدحض رأيهم أمران، الأول: أنه في فترة حكم طالبان الأولى التي استمرت خمس سنوات فعلوا الأمر نفسه، وشهدت لهم بذلك تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية، والثاني: أن هؤلاء الخصوم يرون طالبان حركة متشددة دينيا، فلماذا ستتخلى عن تشددها مع هذا المُحرم؟ وقد رأينا عزيمتهم القوية في القضاء على المخدرات، وعلاج أكثر من ثلاثة ملايين مدمن فيهم مليون من الصغار والنساء، حيث كان الاحتلال يرعى زراعة المخدرات ويشجع عليها.

سابعا:

خرجت أمريكا ومعها أكثر من أربعين دولة، بعد احتلال دام عشرين سنة، وهي مهزومة تبحث عن الخلاص، بعدما هزم المجاهدون 150 ألف جندي من جيش التحالف، و250 ألف جندي من جيش الحكومة الموالية للاحتلال بقيادة أشرف غني، في أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأكبر تكلفة في التاريخ.

ثامنا:

استولت أمريكا عند خروجها على 9 مليارات دولار من أموال الشعب الأفغاني، ومع ذلك لا توجد ديون خارجية على أفغانستان، وتدور عجلة الدولة من خلال الموارد الداخلية، وكانت أمريكا تراهن على سقوط الحكومة خلال أول ستة أشهر لعدم وجود السيولة المالية، ولكن كل من عمل في الحكومة خلال هذه الفترة من الحركة لم يتقاض راتبا، وبدأت الرواتب بمئة دولار شهريا بعد مرور تسعة أشهر، مع أن الموظفين القدامى يتقاضون رواتبهم دون تأخير.

تاسعا:

خلّفت حرب العشرين سنة الأخيرة نصف مليون يتيم، وثمانين ألف أرملة، وأكثر من مئة وخمسين ألف معوق، وعشرة ملايين مهاجر، وجعلت الإمارة الإسلامية رعاية اليتامى والأرامل في مقدمة الأولويات، ولا تفرّق في المعاملة بين أيتام المجاهدين، وأيتام من كانوا في صف المحتلين.

عاشرا:

أفغانستان أرض بكر واستثمار واعد، في ظل حكومة جعلت الأمن في رأس هرمها، وبسطت نفوذها وسيطرتها على كل ولايات أفغانستان، تحت حكومة مركزية واحدة لأول مرة منذ ثلاث وأربعين سنة، وخيرات الله فيها، وموقعها بجوار أهم الدول الكبرى جعلها مطمعا للغزاة، كما أن السلع باهظة الثمن تجدها رخيصة مبذولة في أفغانستان، فالزعفران مع الشاي بدلا من النعناع، والمكسرات تباع كالتسالي، والأحجار الكريمة لا مثيل لها في جمالها ورخصها، فعلى رجال الأعمال والمستثمرين اغتنام الفرصة، والمساعدة في كسر الحصار عن إخوانهم، وبذل العون من كل أصحاب الخبرات لتمام نجاح التجربة، وظهور نموذج حكم رشيد، في ظل أحكام الكتاب المجيد.

وفد العلماء في أفغانستان

المصدر : الجزيرة مباشر